-->

الهجرة بين الإخلاص والمقاصد الدنيوية: قراءة في حديث النيات

حديث النيات

 ■ الحديث: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ــ وَفِي رِوَايَةٍ: بِالنِّيَّةِ  ــ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» .

■ حكم الحديث: متفق عليه

■ شرح الحديث: 〈فتح السلام شرح عمدة الأحكام〉

كتاب الطّهارة

قوله: (كتاب الطهارة) هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب الطهارة.

وكتاب: مصدر، يقال كتب يكتب كتابة وكتاباً، ومادّة كتب دالةٌ على الجمع والضّمّ، ومنها الكتيبة والكتابة، استعملوا ذلك فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل.

والضّمّ فيه بالنّسبة إلى المكتوب من الحروف حقيقة وبالنّسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز.

والباب موضوعه المدخل , فاستعماله في المعاني مجاز.

قوله: (عمر بن الخطاب) أي ابن نفيل - بنون وفاء مصغر - ابن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء بعدها تحتانية وآخره مهملة - ابن عبد الله بن قرط بن رزاح - بفتح الراء بعدها زاي وآخره مهملة - ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب.

يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب، وعددُ ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر. فبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكعبٍ سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية.

وأُمُّ عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة - ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة - ووقع عند ابن منده , أنها بنت هشام أخت أبي جهل , وهو تصحيف نبَّه عليه ابن عبد البر وغيره.

أما كنيته. فجاء في " السيرة " لابن إسحاق , أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كنَّاه بها، وكانت حفصةُ أكبر أولاده.

وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق.

فقيل: أول من لقبه به النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في " تاريخه " من طريق ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد من حديث عائشة. وقيل: أهل الكتاب. أخرجه ابن سعد عن الزهري. وقيل: جبريل. رواه البغوي.

وكان قتلُ عمر - رضي الله عنه - في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث عشرة سنة إلاَّ ثلاثة أشهر.

قوله: (سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) حكى المُهلَّب (١) , أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خطب به حين قدم المدينة مهاجراً. انتهى

إلاَّ أنّني لَم أر ما ذكره من كونه - صلى الله عليه وسلم - خطب به أوّل ما هاجر منقولاً. وقد وقع في البخاري بلفظ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا أيّها النّاس إنّما الأعمال بالنّيّة. الحديث، ففي هذا إيماء إلى أنّه كان في حال الخطبة.

أمّا كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدلّ عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصّة مهاجر أمّ قيس.

قال ابن دقيق العيد (١): نقلوا أنّ رجلاً هاجر من مكّة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة. وإنّما هاجر ليتزوّج امرأة تسمّى أمّ قيس، فلهذا خصّ في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به. انتهى.

وقصّة مهاجر أمّ قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: من هاجر يبتغي شيئاً فإنّما له ذلك، هاجر رجلٌ ليتزوّج امرأة يُقال لها أمّ قيس , فكان يُقال له مهاجر أمّ قيس.

ورواه الطّبرانيّ من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجلٌ خطب امرأة يقال لها أمّ قيس فأبت أن تتزوّجه حتّى يهاجر فهاجر فتزوّجها، فكنّا نسمّيه مهاجر أمّ قيس.

وهذا إسناد صحيح على شرط الشّيخين، لكن ليس فيه أنّ حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولَم أر في شيء من الطّرق ما يقتضي التّصريح بذلك.

وقد تواتر النّقل عن الأئمّة في تعظيم قدر هذا الحديث:

قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث.

واتّفق عبد الرّحمن بن مهديّ والشّافعيّ فيما نقله البويطيّ عنه وأحمد بن حنبل وعليّ بن المدينيّ وأبو داود والتّرمذيّ والدّارقطنيّ وحمزة الكنانيّ على أنّه ثلث الإسلام.

ومنهم مَن قال: رُبعه، واختلفوا في تعيين الباقي.

وقال ابن مهديّ أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم.

وقال الشّافعيّ: يدخل في سبعين باباً، ويحتمل: أن يريد بهذا العدد المبالغة.

وقال عبد الرّحمن بن مهديّ أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كلّ باب.

ووجّه البيهقيّ كونه ثلث العلم: بأنّ كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنّيّة أحد أقسامها الثّلاثة وأرجحها؛ لأنّها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد: نيّة المؤمنِ خيرٌ من عمله (١)، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين.

وكلام الإمام أحمد يدلّ على أنّه بكونه ثلث العلم أنّه أراد أحد القواعد الثّلاثة التي تُردُّ إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا. و " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ " (١) و " الحلال بيّن والحرام بيّن. الحديث ". (٢)

ثمّ إنّ هذا الحديث متّفق على صحّته. أخرجه الأئمّة المشهورون إلاَّ الموطّأ، ووهم من زعم أنّه في الموطّأ مغترّاً بتخريج الشّيخين له والنّسائيّ من طريق مالك.

وقال أبو جعفر الطّبريّ: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض النّاس مردوداً لكونه فرداً؛ لأنّه لا يروى عن عمر إلاَّ من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلاَّ من رواية محمّد بن إبراهيم ولا عن محمّد بن إبراهيم إلاَّ من رواية يحيى بن سعيد.

وهو كما قال، فإنّه إنّما اشتهر عن يحيى بن سعيد , وتفرّد به من فوقه , وبذلك جزم التّرمذيّ والنّسائيّ والبزّار وابن السّكن وحمزة بن محمّد الكنانيّ.

وأطلق الخطّابيّ نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنّه لا يعرف إلاَّ بهذا الإسناد.

وهو كما قال , لكن بقيدين:

أحدهما: الصّحّة , لأنّه ورد من طرق معلولة. ذكرها الدّارقطنيّ وأبو القاسم بن منده وغيرهما.

ثانيهما: السّياق , لأنّه ورد في معناه عدّة أحاديث صحّت في مطلق النّيّة كحديث عائشة وأمّ سلمة عند مسلم " يبعثون على نيّاتهم "، وحديث ابن عبّاس " ولكن جهاد ونيّة "، وحديث أبي موسى: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. متّفق عليهما (١).

وحديث ابن مسعود: ربّ قتيل بين الصّفّين الله أعلم بنيّته. أخرجه أحمد، وحديث عبادة: من غزا وهو لا ينوي إلاَّ عقالاً فله ما نوى. أخرجه النّسائيّ، إلى غير ذلك ممّا يتعسّر حصره.

وعُرف بهذا التّقرير غلط من زعم أنّ حديث عمر متواتر، إلاَّ إن حُمل على التّواتر المعنويّ فيحتمل.

نعم. قد تواتر عن يحيى بن سعيد. فحكى محمّد بن عليّ بن سعيد النّقّاش الحافظ أنّه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفساً، وسرد أسماءَهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثّلثمائة.

وروى أبو موسى المدينيّ عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاريّ الهرويّ , قال: كتبته من حديث سبعمائةٍ من أصحاب يحيى.

قلت: وأنا أستبعد صحّة هذا، فقد تتبّعت طرقه من الرّوايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة.

وقد تتبّعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمّن تقدّم، كما سيأتي مثالٌ لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى (١).

قوله: (إنّما الأعمال بالنّيّات) كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كلّ عمل بنيّته.

وقال الْخُوَيّي (٢): كأنّه أشار بذلك إلى أنّ النّيّة تتنوّع كما تتنوّع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتّقاء لوعيده.

ووقع في معظم الرّوايات بإفراد النّيّة، ووجهه أنّ محلّ النّيّة القلب وهو متّحد فناسب إفرادها. بخلاف الأعمال فإنّها متعلقة بالظّواهر

وهي متعدّدة فناسب جمعها؛ ولأنّ النّيّة ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.

ووقعت في صحيح ابن حبّان بلفظ " الأعمال بالنّيّات " بحذف " إنّما " وجمع الأعمال والنّيّات، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاريّ في " كتاب الإيمان " بلفظ " الأعمال بالنّيّة "، وكذا في " العتق " من رواية الثّوريّ، وفي الهجرة من رواية حمّاد بن زيد، ووقع عنده في " النّكاح " بلفظ " العمل بالنّيّة " بإفراد كلّ منهما.

والنّيّة: بكسر النّون وتشديد التّحتانيّة على المشهور، وفي بعض اللّغات بتخفيفها.

قال الكرمانيّ (١): قوله " إنّما الأعمال بالنّيّات " هذا التّركيب يفيد الحصر عند المحقّقين، واختلف في وجه إفادته.

فقيل: لأنّ الأعمال جمع محلّىً بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر لأنّ معناه كلّ عمل بنيّةٍ فلا عمل إلاَّ بنيّةٍ.

وقيل: لأنّ إنّما للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز؟.

ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنّها تفيده بالمنطوق وضعاً حقيقيّاً، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام (١) عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلاَّ اليسير كالآمديّ، وعلى العكس من ذلك أهل العربيّة.

واحتجّ بعضهم: بأنّها لو كانت للحصر لَمَا حسن إنّما قام زيد في جواب هل قام عمرو.

أجيب: بأنّه يصحّ أنّه يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلاَّ زيد. وهي للحصر اتّفاقاً.

وقيل: لو كانت للحصر لاستوى إنّما قام زيد مع ما قام إلاَّ زيد، ولا تردّد في أنّ الثّاني أقوى من الأوّل.

وأجيب: بأنّه لا يلزم من هذه القوّة نفي الحصر. فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسّين.

وقد وقع استعمال إنّما موضع استعمال النّفي والاستثناء كقوله تعالى

(إنّما تجزون ما كنتم تعملون) وكقوله: (وما تجزون إلاَّ ما كنتم تعملون) وقوله: (إنّما على رسولنا البلاغ المبين) وقوله: (ما على الرّسول إلاَّ البلاغ).

ومن شواهده قول الأعشى:

ولست بالأكثر منهم حصىً ... وإنّما العزّة للكاثر

يعني: ما ثبتت العزّة إلاَّ لمن كان أكثر حصىً.

قال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة إنّما للحصر بأنّ ابن عبّاس استدل على أنّ الرّبا لا يكون إلاَّ في النّسيئة بحديث " إنّما الرّبا في النّسيئة " (١) وعارضه جماعة من الصّحابة في الحكم , ولَم يخالفوه في فهمه , فكان كالاتّفاق منهم على أنّها تفيد الحصر.

وتعقّب: باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزّلاً.

وأمّا مَن قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله " لا ربا إلاَّ في النّسيئة " لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في ردّ إفادة الحصر، بل يقوّيه ويشعر بأنّ مفاد الصّيغتين عندهم واحد، وإلاَّ لَمَا استعملوا هذه موضع هذه.

وأوضح من هذا حديث " إنّما الماء من الماء " (٢) فإنّ الصّحابة

الذين ذهبوا إليه لَم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنّما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث " إذا التقى الختانان ". (١)

تكميل: الأعمال تقتضي عاملين، والتّقدير: الأعمال الصّادرة من المكلفين، وعلى هذا. هل تخرج أعمال الكفّار؟.

الظّاهر الإخراج؛ لأنّ المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصحّ من الكافر , وإن كان مخاطباً بها معاقباً على تركها , ولا يرِد العتق والصّدقة لأنّهما بدليلٍ آخر.

قوله: (بالنّيّات) الباء للمصاحبة، ويحتمل: أن تكون للسّببيّة. بمعنى أنّها مقوّمة للعمل فكأنّها سبب في إيجاده.

وعلى الأوّل فهي من نفس العمل , فيشترط أن لا تتخلف عن أوّله.

قال النّوويّ (٢): النّيّة القصد، وهي عزيمة القلب. وتعقّبه الكرمانيّ:

بأنّ عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد.

واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟.

والمرجّح أنّ إيجادها ذكراً في أوّل العمل ركن، واستصحابها حكماً - بمعنى أن لا يأتي بمنافٍ شرعاً - شرطٌ.

ولا بدّ من محذوف يتعلق به الجارّ والمجرور، فقيل: تعتبر , وقيل: تكمّل , وقيل: تصحّ , وقيل: تحصل , وقيل: تستقرّ.

قال الطِّيبيّ (١): كلام الشّارع محمول على بيان الشّرع؛ لأنّ المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنّهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلاَّ من قِبَل الشّارع، فيتعيّن الحمل على ما يفيد الحكم الشّرعيّ.

وقال البيضاويّ (٢): النّيّة عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرضٍ من جلب نفع أو دفع ضرّ حالاً أو مآلاً، والشّرع خصّصه بالإرادة المتوجّهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه. والنّيّة في الحديث محمولة على المعنى اللّغويّ ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنّه تفصيل لِمَا أُجمل، والحديث متروك الظّاهر لأنّ الذّوات غير منتفية، إذ التّقدير: لا عمل إلاَّ بالنّيّة، فليس المراد نفي ذات العمل لأنّه قد يوجد بغير نيّة،

بل المراد نفي أحكامها كالصّحّة والكمال، لكنّ الحمل على نفي الصّحّة أولى لأنّه أشبه بنفي الشّيء نفسه؛ ولأنّ اللفظ دلَّ على نفي الذّات بالتّصريح وعلى نفي الصّفات بالتّبع، فلمّا منع الدّليل نفي الذّات بقيت دلالته على نفي الصّفات مستمرّة.

وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أنّ الأعمال تتبع النّيّة، لقوله في الحديث " فمن كانت هجرته " إلى آخره. وعلى هذا يقدّر المحذوف كوناً مطلقاً من اسم فاعل أو فعل. ثمّ لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتّى اللسان فتدخل الأقوال.

قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردّد عندي في أنّ الحديث يتناولها. وأمّا التّروك فهي وإن كانت فعل كفّ لكن لا يطلق عليها لفظ العمل. وقد تعقّب على من يسمّي القول عملاً لكونه عمل اللسان، بأنّ من حلف لا يعمل عملاً فقال قولاً لا يحنث.

وأجيب: بأنّ مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمّى عملاً في العرف ولهذا يعطف عليه. والتّحقيق أنّ القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازاً، وكذا الفعل، لقوله تعالى (ولو شاء ربّك ما فعلوه) بعد قوله: (زخرف القول).

قال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النّيّة قدّروا صحّة الأعمال، والذين لَم يشترطوها قدّروا كمال الأعمال، ورجّح الأوّل بأنّ الصّحّة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى. انتهى

وفي هذا الكلام إيهام أنّ بعض العلماء لا يرى باشتراط النّيّة، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلاَّ في الوسائل.

وأمّا المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النّيّة لها، ومن ثَمَّ خالف الحنفيّة في اشتراطها للوضوء، وخالف الأوزاعيّ في اشتراطها في التّيمّم أيضاً.

نعم. بين العلماء اختلاف في اقتران النّيّة بأوّل العمل. كما هو معروف في مبسوطات الفقه.

تكميلٌ: الظّاهر أنّ الألف واللام في " النّيّات " معاقبة للضّمير، والتّقدير الأعمال بنيّاتها، وعلى هذا فيدلّ على اعتبار نيّة العمل من كونه مثلاً صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضاً أو نفلاً، ظهراً مثلاً أو عصراً، مقصورة أو غير مقصورة وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث.

والرّاجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفكّ عن العدد المعيّن، كالمسافر مثلاً ليس له أن يقصر إلاَّ بنيّة القصر، لكن لا يحتاج إلى نيّة ركعتين لأنّ ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم.

قوله: (وإنّما لكل امرئٍ ما نوى) قال القرطبيّ (١): فيه تحقيق

لاشتراط النّيّة والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنّها مؤكّدة.

وقال غيره: بل تُفيد غير ما أفادته الأولى. لأنّ الأولى نبّهت على أنّ العمل يتبع النّيّة ويصاحبها، فيترتّب الحكم على ذلك، والثّانية أفادت أنّ العامل لا يحصل له إلاَّ ما نواه.

وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثّانية تقتضي أنّ من نوى شيئاً يحصل له - يعني إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعاً بعدم عمله وكلّ ما لَم ينوه لَم يحصل له.

ومراده بقوله " ما لَم ينوه " أي: لا خصوصاً ولا عموماً، أمّا إذا لَم ينو شيئاً مخصوصاً لكن كانت هناك نيّة عامّة تشمله فهذا ممّا اختلفت فيه أنظار العلماء. ويتخرّج عليه من المسائل ما لا يحصى.

وقد يحصل غير المنويّ لمدركٍ آخر. كمن دخل المسجد فصلَّى الفرض أو الرّاتبة قبل أن يقعد فإنّه يحصل له تحيّة المسجد نواها أو لَم ينوها؛ لأنّ القصد بالتّحيّة شغل البقعة وقد حصل.

وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنّه لا يحصل له غسل الجمعة على الرّاجح؛ لأنّ غسل الجمعة ينظر فيه إلى التّعبّد لا إلى محض التّنظيم فلا بدّ فيه من القصد إليه، بخلاف تحيّة المسجد.

والله أعلم.

وقال النّوويّ: أفادت الجملة الثّانية اشتراط تعيين المنويّ كمَن عليه صلاةٌ فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتّى يعيّنها ظهراً مثلاً أو عصراً، ولا يخفى أنّ محلّه ما إذا لَم تنحصر الفائتة.

وقال ابن السّمعانيّ في أماليه: أفادت أنّ الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثّواب إلاَّ إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوّة على الطّاعة.

وقال غيره: أفادت أنّ النّيابة لا تدخل في النّيّة، فإنّ ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نيّة الوليّ عن الصّبيّ ونظائره فإنّها على خلاف الأصل.

وقال ابن عبد السّلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثّانية لبيان ما يترتّب عليها. وأفاد أنّ النّيّة إنّما تشترط في العبادة التي لا تتميّز بنفسها، وأمّا ما يتميّز بنفسه فإنّه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتّلاوة لأنّها لا تتردّد بين العبادة والعادة.

ولا يخفى أنّ ذلك إنّما هو بالنّظر إلى أصل الوضع، أمّا ما حدث فيه عرف كالتّسبيح للتّعجّب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذّكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثواباً.

ومن ثَمَّ قال الغزاليّ: حركة اللسان بالذّكر مع الغفلة عنه تحصّل الثّواب؛ لأنّه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السّكوت مطلقاً، أي المجرّد عن التّفكّر. قال: وإنّما هو ناقص بالنّسبة إلى عمل القلب. انتهى

ويؤيّده قوله - صلى الله عليه وسلم -: في بُضع أحدكم صدقة. ثمّ قال في الجواب عن قولهم. أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟: أرأيت لو وضعها في حرام (١).

وأُورد على إطلاق الغزاليّ أنّه يلزم منه أنّ المرء يثاب على فعل مباح لأنّه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده.

وخصّ من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة فإنّه لا يحتاج إلى نيّة تخصّه كتحيّة المسجد كما تقدّم، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلاَّ بعد مدّة العدّة فإنّ عدّتها تنقضي؛ لأنّ المقصود حصول براءة الرّحم وقد وجدت، ومن ثَمَّ لَم يحتج المتروك إلى نيّة.

ونازع الكرمانيّ في إطلاق الشّيخ محيي الدّين كون المتروك لا يحتاج إلى نيّة , بأنّ التّرك فعل وهو كفّ النّفس، وبأنّ التّروك إذا أريد بها تحصيل الثّواب بامتثال أمر الشّارع فلا بدّ فيها من قصد التّرك.

وتعقّب: بأنّ قوله " التّرك فعل " مختلف فيه، ومن حقّ المستدلّ على المانع أن يأتي بأمرٍ متّفق عليه.

وأمّا استدلاله الثّاني فلا يطابق المورد؛ لأنّ المبحوث فيه. هل تلزم النّيّة في التّروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده. هل يحصل الثّواب بدونها؟ والتّفاوت بين المقامين ظاهر.

والتّحقيق أنّ التّرك المجرّد لا ثواب فيه، وإنّما يحصل الثّواب بالكفّ الذي هو فعل النّفس، فمن لَم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس

كمن خطرت فكفّ نفسه عنها خوفاً من الله تعالى، فرجع الحال إلى أنّ الذي يحتاج إلى النّيّة هو العمل بجميع وجوهه، لا التّرك المجرّد. والله أعلم.

تنبيه: قال الكرمانيّ: إذا قلنا إنّ تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله " وإنّما لكل امرئٍ ما نوى " نوعان من الحصر.

الأول: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنّما لكل امرئٍ ما نواه.

والثاني: التّقديم المذكور.

قوله: (هجرته) الهجرة: التّرك، والهجرة إلى الشّيء: الانتقال إليه عن غيره. وفي الشّرع: ترك ما نهى الله عنه.

وقد وقعت في الإسلام على وجهين:

الأوّل: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتَي الحبشة وابتداء الهجرة من مكّة إلى المدينة.

الثّاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان , وذلك بعد أن استقرّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين.

وكانت الهجرة إذ ذاك تختصّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكّة فانقطع من الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً.

فإن قيل: الأصل تغاير الشّرط والجزاء فلا يقال مثلاً: من أطاع أطاع وإنّما يقال مثلاً: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متّحدين.

فالجواب: أنّ التّغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السّياق، ومن أمثلته قوله تعالى (ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوب إلى الله متاباً) وهو مؤوّل على إرادة المعهود المستقرّ في النّفس، كقولهم: أنت أنا. أي: الصّديق الخالص، وقولهم: هم هم. أي: الذين لا يقدّر قدرهم، وقول الشّاعر: أنا أبو النّجم وشعري شعري.

أو هو مؤوّل على إقامة السّبب مقام المسبّب لاشتهار السّبب.

وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشّهرة وعدم التّغيّر فيتّحد بالمبتدأ لفظاً كقول الشّاعر:

خليلي خليلي دون ريب وربّما ... ألان امرؤٌ قولاً فظنّ خليلاً.

وقد يفعل مثل هذا بجواب الشّرط كقولك: من قصدني فقد قصدني. أي: فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده.

وقال غيره: إذا اتّحد لفظ المبتدأ والخبر والشّرط والجزاء علم منهما المبالغة إمّا في التّعظيم وإمّا في التّحقير.

قوله: (إلى دنيا) بضمّ الدّال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فعلى من الدّنوّ. أي: القرب.

سُمِّيت بذلك لسبقها للأخرى. وقيل: سُمِّيت دنيا لدنوّها إلى الزّوال.

واختلف في حقيقتها.

فقيل: ما على الأرض من الهواء والجوّ. وقيل: كلّ المخلوقات من

الجواهر والأعراض.

والأولى أولى. لكن يزاد فيه ممّا قبل قيام السّاعة، ويطلق على كلّ جزء منها مجازاً.

ثمّ إنّ لفظها مقصور غير منوّن، وحكي تنوينها، وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكُشْمِيهَنيّ (١) وضعّفها.

وقال التّيميّ (٢) في شرحه قوله " دنيا ": هو تأنيث الأدنى ليس بمصروفٍ لاجتماع الوصفيّة ولزوم حرف التّأنيث.

وتعقّب: بأنّ لزوم التّأنيث للألف المقصورة كافٍ في عدم الصّرف.

وأما الوصفيه. فقال ابن مالكٍ: استعمال دنيا منكّرًا فيه إشكالٌ , لأنّها أفعل التّفضيل فكان من حقّها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى.

قال: إلاَّ أنّها خلعت عنها الوصفية وأجريت مجرى ما لَم يكن

وصفًا قطّ , ومثله قول الشّاعر:

وإنْ دعوتِ إلى جُلَّى (١) ومَكرُمةٍ ... يومًا سراةَ كِرامِ النّاسِ فادعينا

وقال الكرمانيّ: قوله " إلى " يتعلق بالهجرة - إن كان لفظ كانت تامّة - أو هو خبر لكانت - إن كانت ناقصة - ثمّ أورد ما محصّله: أنّ لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك.

وأجاب: بأنّه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمانٍ، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أنّ حكم المكلفين سواء.

قوله: (يصيبها) أي: يحصّلها؛ لأنّ تحصيلها كإصابة الغرض بالسّهم بجامع حصول المقصود

قوله: (أو امرأة) قيل: التّنصيص عليها من الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به.

وتعقّبه النّوويّ: بأنّ لفظ دنيا نكرة , وهي لا تعمّ في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها.

وتعقّب: بكونها في سياق الشّرط فتعمّ، ونكتة الاهتمام الزّيادة في التّحذير؛ لأنّ الافتتان بها أشدّ.

وقد تقدّم النّقل عمّن حكى. أنّ سبب هذا الحديث قصّة مهاجر أمّ قيس , ولَم نقف على تسميته. ونقل ابن دحية. أنّ اسمها قيلة بقافٍ

مفتوحة ثمّ تحتانيّة ساكنة.

وحكى ابن بطّال (١) عن ابن سراج , أنّ السّبب في تخصيص المرأة بالذّكر أنّ العرب كانوا لا يزوّجون المولى العربيّة، ويراعون الكفاءة في النّسب، فلمّا جاء الإسلام سوّى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من النّاس إلى المدينة ليتزوّج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك. انتهى.

ويحتاج إلى نقلٍ ثابتٍ أنّ هذا المهاجر كان مولىً وكانت المرأة عربيّة، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه , بل قد زوّج خلقٌ كثيرٌ منهم جماعةً من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أنّ الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع.

قوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يحتمل: أن يكون ذكره بالضّمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها , وإنّما أبرز الضّمير في الجملة التي قبلها لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدّنيا والمرأة فإنّ السّياق يشعر بالحثّ على الإعراض عنهما.

وقال الكرمانيّ: يحتمل: أن يكون قوله " إلى ما هاجر إليه " متعلقاً

بالهجرة، فيكون الخبر محذوفاً , والتّقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلاً. ويحتمل: أن يكون خبر فهجرته , والجملة خبر المبتدأ الذي هو " من كانت " انتهى

وهذا الثّاني هو الرّاجح؛ لأنّ الأوّل يقتضي أنّ تلك الهجرة مذمومة مطلقاً، وليس كذلك، إلاَّ إن حُمل على تقدير شيء يقتضي التّردّد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوّج المرأة معاً فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنّسبة إلى من كانت هجرته خالصة.

وإنّما أشعر السّياق بذمّ من فعل ذلك بالنّسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأمّا من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنّه يثاب على قصد الهجرة. لكن دون ثواب من أخلص.

وكذا من طلب التّزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله؛ لأنّه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف.

ومن أمثلة ذلك , ما وقع في قصّة إسلام أبي طلحة. فيما رواه النّسائيّ عن أنس قال: تزوّج أبو طلحة أمّ سليمٍ فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أمّ سليمٍ قبل أبي طلحة فخطبها , فقالت: إنّي قد أسلمتُ، فإن أسلمتَ تزوّجتك. فأسلم فتزوّجته.

وهو محمول على أنّه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضمّ إلى ذلك إرادة التّزويج المباح , فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم.

واختار الغزاليّ فيما يتعلق بالثّواب: أنّه إن كان القصد الدّنيويّ هو الأغلب لَم يكن فيه أجر، أو الدّينيّ أجر بقدره، وإن تساويا فتردّد القصد بين الشّيئين فلا أجر.

وأمّا إذا نوى العبادة وخالطها بشيءٍ ممّا يغاير الإخلاص , فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطّبريّ عن جمهور السّلف أنّ الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصاً لَم يضرّه ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم.

واستدل بهذا الحديث. على أنّه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم؛ لأنّ فيه أنّ العمل يكون منتفياً إذا خلا عن النّيّة، ولا يصحّ نيّة فعل الشّيء إلاَّ بعد معرفة الحكم. وعلى أنّ الغافل لا تكليف عليه؛ لأنّ القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد.

وعلى أنّ من صام تطوّعاً بنيّةٍ قبل الزّوال أن لا يُحسب له إلاَّ من وقت النّيّة وهو مقتضى الحديث.

لكن تمسّك مَن قال بانعطافها بدليلٍ آخر، ونظيره حديث: من أدرك من الصّلاة ركعة فقد أدركها. (١) أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى.

وعلى أنّ الواحد الثّقة إذا كان في مجلس جماعة ثمّ ذكر عن ذلك

المجلس شيئاً لا يمكن غفلتهم عنه ولَم يذكره غيره أنّ ذلك لا يقدح في صدقه، خلافاً لمن أعلَّ بذلك؛ لأنّ علقمة ذكر أنّ عمر خطب به على المنبر , ثمّ لَم يصحّ من جهة أحد عنه غير علقمة.

واستدل بمفهومه. على أنّ ما ليس بعملٍ لا تشترط النّيّة فيه. ومن أمثلة ذلك جمع التّقديم , فإنّ الرّاجح من حيث النّظر أنّه لا يشترط له نيّة، بخلاف ما رجّحه كثيرٌ من الشّافعيّة.

وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام , وقال: الجمع ليس بعملٍ، وإنّما العمل الصّلاة. ويقوّي ذلك أنّه - صلى الله عليه وسلم - جمع في غزوة تبوك , ولَم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطاً لأعلمهم به.

واستُدلّ به على أنّ العمل إذا كان مضافاً إلى سبب ويجمع متعدَّدَه جنسٌ أنّ نيّة الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفّارة ولَم يعيّن كونها عن ظهار أو غيره؛ لأنّ معنى الحديث أنّ الأعمال بنيّاتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفّارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفّارة وشكّ في سببها أجزأه إخراجها بغير تعيين.

وفيه زيادة النّصّ على السّبب؛ لأنّ الحديث سيق في قصّة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدّنيا في القصّة زيادة في التّحذير والتّنفير.

وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العامّ وإن كان سببه خاصّاً، فيستنبط منه الإشارة إلى أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

وفيه. اشتراط النية في الوضوء خلافاً لمن لَم يشترط فيه النّيّة كما نقل عن الأوزاعيّ وأبي حنيفة وغيرهما.

وحجّتهم: أنّه ليس عبادة مستقلة بل وسيلة إلى عبادة كالصّلاة.

ونوقضوا بالتّيمّم فإنّه وسيلة. وقد اشترط الحنفيّة فيه النّيّة.

واستدل الجمهور على اشتراط النّيّة في الوضوء بالأدلة الصّحيحة المصرّحة بوعد الثّواب عليه، فلا بدّ من قصد يميّزه عن غيره ليحصل الثّواب الموعود.

وأمّا الصّلاة. فلم يُختلف في اشتراط النّيّة فيها.

وأمّا الزّكاة. فإنّما تسقط بأخذ السّلطان , ولو لَم ينو صاحب المال , لأنّ السّلطان قائم مقامه.

وأمّا الحجّ. فإنّما ينصرف إلى فرض من حجّ عن غيره لدليلٍ خاصّ , وهو حديث ابن عبّاس في قصّة شبرمة.

وأمّا الصّوم. فنقل عن زفر أنّ صيام رمضان لا يحتاج إلى نيّة , لأنّه متميّز بنفسه كما زعم. وكلّ صورة لَم يشترط فيها النّيّة فذاك لدليلٍ خاصّ.

وقد ذكر ابن المنير (١) ضابطاً لِمَا يشترط فيه النّيّة ممّا لا يشترط.

فقال: كلّ عملٍ لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثّواب فالنّيّة مشترطة فيه، وكلّ عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطّبيعة

قبل الشّريعة لملاءمة بينهما , فلا تشترط النّيّة فيه , إلاَّ لمن قصد بفعله معنىً آخر يترتّب عليه الثّواب.

قال: وإنّما اختلف العلماء في بعض الصّور من جهة تحقيق مناط التّفرقة.

قال: وأمّا ما كان من المعاني المحضة , كالخوف والرّجاء , فهذا لا يقال باشتراط النّيّة فيه؛ لأنّه لا يمكن أن يقع إلاَّ منويّاً. ومتى فرضت النّيّة مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنّيّة فيه شرط عقليّ، ولذلك لا تشترط النّيّة للنّيّة فراراً من التّسلسل.


وأمّا الأقوال فتحتاج إلى النّيّة في ثلاثة مواطن:

أحدها: التّقرّب إلى الله فراراً من الرّياء.

والثّاني: التّمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود.

والثّالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان.


(١) أخرجه البخاري رقم (١ , ٥٤ , ٢٣٩٢ , ٣٦٨٥، ٤٧٨٣، ٦٣١١، ٦٥٥٣) ومسلم (١٩٠٧) من طرق عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - به.


(١) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله، الأسدي الأندلسي المريي، مُصنِّف " شرح صحيح البخاري ". وكان أحد الائمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء. أخذ عن أبي محمد الاصيلي، وفي الرحلة عن أبي الحسن القابسي، وأبي الحسن علي بن بندار القزويني، وأبي ذر الحافظ. روى عنه: أبو عمر بن الحذاء، ووصفه بقوة الفهم وبراعة الذهن. ولي قضاء المرية. توفي في شوال سنة ٤٣٥. قاله الذهبي (١٧/ ٥٧٩).

(١) محمد بن علي بن وهب بن مطيع، الإمام العلاَّمة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح ابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي، أحدُ الأعلام وقاضي القضاة؛ ولد ٧٢٥ هـ بناحية ينبع , وتوفي يوم الجمعة ١١ صفر سنة ٧٠٢ هـ.

فوات الوفيات (٣/ ٤٤٢)

وغالب نقولات الشارح عن ابن دقيق. هي ما في شرحه للعمدة كما ذكرناه في المقدّمة.

(١) أخرجه البيهقي في " الشعب " (٦٥٩٥) من حديث أنس مرفوعاً.قال البيهقي: إسناده ضعيف.

وقد ذكره ابن حجر في كتاب الصيام كما سيأتي. وعزاه للشهاب وضعّفه. انظر " المقاصد الحسنة ". للسخاوي رحمه الله.

(١) أخرجه الشيخان عن عائشة , وسيأتي شرحه إن شاء الله في القضاء. رقم (٣٧٣)


(٢) أخرجه الشيخان عن النعمان , وسيأتي شرحه إن شاء الله في الأطعمة رقم (٣٧٩)

(١) حديث ابن عباس سيأتي شرحه إن شاء الله في كتاب الحج , برقم (٢٢٤)

أما حديث أبي موسى. فسيأتي أيضاً آخر كتاب الجهاد. برقم (٤٢٣)

(١) سيأتي إن شاء الله في أول كتاب الجمعة.


(٢) محمد بن أحمد بن خليل بن سعادة قاضي القضاة شهاب الدين أبو عبد الله ابن قاضي القضاة شمس الدين الخويي ثم الدمشقي الشافعي إمام بارع متفنن مصنف حاوٍ للفضائل، ولد سنة ٦٢٦. مات في رمضان سنة ٦٩٣. معجم الشيوخ الكبير للذهبي (٢/ ١٤٤)

قال السمعاني في " الأنساب " (٥/ ٢٣٦): الْخُوَيّي بضم الخاء المنقوطة وفتح الواو وتشديد الياء المنقوطة باثنتين من تحتها، هذه النسبة إلى خوي. وهي إحدى بلاد آذربيجان.

(١) محمد بن يوسف بن علي بن سعيد، شمس الدين الكرماني (٧١٧ - ٧٨٦ هـ) عالم بالحديث. أصله من كرمان. اشتهر في بغداد، قال ابن حجي: تصدَّى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة. وأقام مدة بمكة. وفيها فرغ من تأليف كتابه (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري) ٢٥ جزءاً صغيراً، قال ابن قاضي شهبة: فيه أوهام وتكرار كثير , ولا سيما في ضبط أسماء الرواة. الأعلام للزركلي (٧/ ١٣٥).

قال الحافظ العراقي عن شرح الكرماني للبخاري كما نقله تلميذه ابن حجر في " الدرر الكامنة " (٦: ٦٦): وهو شرحٌ مفيدٌ على أوهام فيه في النقل , لأنَّه لم يأخذ إلاَّ من الصُّحف.

(١) المقصود بشيخ الإسلام عند إطلاق الشارح. عمر بن رسْلان بن بَصِير بن صالح بن شهاب بن عبد الخَالِق بن عبد الحق السراج البلقيني ثمَّ القاهري الشافعي ولد ٧٢٤ هـ فاق بذكائه وكثرة محفوظاته وسرعة فهمه , وبرع في جميع العلوم , وقال له ابن كثير: أذكرتنا ابن تيمية , وكذلك قال له ابن شيخ الجبل: ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظَ منك. توفي رحمه الله سنة ٨٠٥ هـ الدرر الكامنة (١/ ٥٠٦) للشوكاني.

(١) أخرجه البخاري في " صحيحه " (٢١٧٨) ومسلم (١٥٩٦) واللفظ له. من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. وسيأتي إن شاء الله في باب الربا ما يتعلّق بشيء من فقهه.

(٢) أخرجه مسلم (٣٤٣) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وانظر الحديث رقم (٣٨)

(١) أخرجه الشافعي (١/ ١٥٩) وابن ماجه (١/ ١٩٩، رقم ٦٠٨) وإسحاق بن راهويه (رقم ١٠٤٤) والبيهقي في " المعرفة " (١/ ٤٦٣، رقم ١٣٧٢) وابن حبان (٣/ ٤٥٦ رقم ١١٨٣). من حديث عائشة. به. وللحديث طرق أخرى وألفاظ. وهو حديث صحيح.

ولمسلم (٨١٢) من حديث عائشة مرفوعاً: إذا جلس بين شُعبها الأربع , ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل. وهو بمعناه. انظر حديث أبي هريرة برقم (٣٨).

(٢) يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي الحوراني، النووي، الشافعيّ، أبو زكريا، محيي الدين: علاَّمة بالفقه والحديث. مولده سنة ٦٣١ هـ ووفاته في نوا (من قرى حوران، بسورية) سنة ٦٧٦ هـ واليها نسبته. الأعلام للزركلي (٨/ ١٤٩).

(١) العلامة شرف الدين. الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبى (بكسر الطاء والباء الموحدة) الدمشقي الحافظ توفى سنة ٧٤٣ هـ. من تصانيفه (الكاشف عن حقائق السنن في شرح مصابيح السنة) للبغوي. هداية العارفين (١/ ٢٨٥).

(٢) عبد الله بن عمر. ستأتي ترجمته.

(١) أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي: فقيه مالكي، من رجال الحديث. يعرف بابن المزين. كان مدرساً بالإسكندرية وتوفي بها. ومولده بقرطبة سنة ٥٧٨. من كتبه (المفهم لِما أشكل من تلخيص كتاب مسلم) شرح به كتاباً من تصنيفه في اختصار مسلم. توفي سنة ٦٥٦ هـ. الأعلام للزركلي (١/ ١٦٨).

(١) أخرجه مسلم في " الصحيح " (٢٣٧٦) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -

(١) المحدث الثقة أبو الهيثم محمد بن مكي بن محمد بن مكي بن زراع بن هارون المروزي الكشميهني. حدَّث بـ " صحيح البخاري " مرَّات , عن أبي عبد الله الفربري.

حدث عنه: أبو ذر الهروي , وكريمة المروزية المجاورة , وآخرون. وكان صدوقاً. مات في يوم عرفة سنة ٣٨٩. هـ قاله الذهبي في السير (١٢/ ٤٤٠). بتجوز.

(٢) محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني المولود في حدود سنة ٥٠٠ هـ شرعَ في شرح البخاري ومسلم فاخترمته المنيَّة صغيراً سنة ٥٢٦ هـ فأكمل والده الإمام أبو القاسم الملقَّب بقوام السنة الشرحَ. شذرات الذهب لابن العماد (٦/ ١٧٥).

(١) أي: الأمر العظيم.

(١) علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال أبو الحسن القرطبي , ويعرف أيضاً بابن اللجَّام. بالجيم المشددة , قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة والفهم , مليح الخط , حسن الضبط , عني بالحديث العناية التامة , وشرحَ صحيحَ البخاري في عدة مجلدات , ورواه الناس عنه , وكان ينتحل الكلام على طريقة الأشعري. وتوفي سنة ٤٤٩هـ. الوافي في الوفيات للصفدي (٢١/ ٥٦).

(١) أخرجه البخاري (٥٨٠) ومسلم (٦٠٧) من حديث أبي هريرة بلفظ " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ". ولأحمد (٨٨٨٣) " فقد أدركها "

(١) هو علي بن محمد الاسكندراني , انظر ترجمته (٢/ ٣٧٨

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:1

إرسال تعليق

أحدث أقدم