سلسلة فقه الطهارة
■ الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
قَولهُ: «لَا يَقْبَلُ»: هذَا نفْيٌ لِلقَبُول.
وَنَفْيُ القَبُولِ عَلَى وَجْهَينِ:
أخرجه ابن خزيمة: كتاب جماع أبواب الصدقة في رمضان، باب استحباب إتيان المرأة زوجها وولدها بصدقة التطوع على غيرهم من الأباعد إذ هم أحق بأن يتصدق عليهم من الأباعد، رقم (٢٤٦١).
الوَجْهِ الأولِ: يَكونُ لِتركِ وَاجِبٍ في العِبادَة، أوْ فِعْلِ مَحظُورٍ، فنَفْيُ القَبُولِ نَفْيٌ لِلصِّحَّةِ.
الوَجْهِ الثَّاني: يَكُونُ لِغير ذَلكَ، فَنَفْيُ القَبُول لَيسَ نَفْيًا لِلصِّحةِ.
ففِي قَولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ لَنْ تُقْبَلَ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» هذَا نَفيٌ لِلقَبُول، لَكنَّه لَا يَتَعَلَّق بِالصَّلَاحِ، وَلَا يَتَعَلقُ بِتَركِ وَاجِبٍ وَلا بفِعْلِ مُحَرَّم، وَحِينَئذٍ لَا يَكونُ نَفيُ القَبولِ نَفيًا لِلصِّحَّة.
وَلِهذَا لَو أَنَّ مَنْ أتَى عَرَّافًا فَسَأَله، وَصَلَّى قُلنا: الصَّلاةُ مقْبُولةٌ، وَلَا مُنافَاةَ بَيْنَ قولِنَا هَذَا، وَقَولِه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ-: «لَنْ تُقْبَلَ لَهُ صَلَاةٌ»؛ لِأنَّ معنَى الحَدِيثِ أَنَّ سُؤَالَه لهذَا الْعرَّافِ إِثْمُه يُقَابِل أَجرَ الصَّلاةِ، فَلَم تَكُن هَذهِ الصَّلاةُ مَقبولَةً مِن جِهَةِ مُقَابلَةِ الْإثْمِ بِالثَّوابِ، وَلَيسَ المعنَى أَنَّها لَا تَصِحُّ إِطْلَاقًا.
وَكَذَلِكَ قَولهُ ﷺ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»، فَنقُولُ: المُرادُ بِذَلكَ مُقَابَلةُ هَذَا بهذَا، وَلَيسَ المرَادُ أنَّها لَا تَصِحُّ.
قَولهُ : «صَلَاةُ أَحَدِكُمْ» عَامَّةٌ؛ لأنَّها مُفرَدٌ مُضَافٌ، فتَعُمُّ كُلَّ صَلَاة، كَالصَّلَواتِ الخَمْسِ، وَالجمُعةِ، وَالرَّوَاتبِ، وَالوِتْرِ، وَصَلاةِ الجنَازَةِ، وَالنَّفْلِ المُطْلَقِ، كُلُّ هَذَا دَاخِلٌ في اللفْظِ؛ لأنَّهُ يَشْمَلُ الْعُمُومَ.
وَهَلْ يَدخُلُ في ذَلكَ سُجُودُ التِّلَاوةِ وَالشُّكرِ؟
فَالجَوَابُ: أَنَّ هَذَا يَنبَنِيَ عَلَى الخِلَافِ، هَلْ هُمَا مِنَ الصَّلَواتِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُما مِنَ الصَّلَواتِ، دَخَلَا في الحَدِيثِ، وَصَارَا لَا بُدَّ مِنَ الطَّهَارَةِ لـهمَا، وَالمسْأَلَةُ عَلَى خِلَافٍ.
وَأَنَا أَخْتَارُ أَنَّ سُجُودَ التِّلاوةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْوُضُوءِ، بخِلَافِ سُجُودِ الشُّكرِ؛ لأنَّ سُجودَ التلَاوَةِ يَأْتي عَن ترَوٍّ، وَتمَكُّنٍ مِنَ الطَّهارةِ، بِخلَاف سُجودِ الشُّكرِ يَأْتي بَغْتةً، فَلَا يَتَمكنُ الإِنْسانُ، وَإنْ ذَهبَ ليتَوَضَّأَ فَاتَ وقْتُه.
قَولهُ ﷺ: «إِذَا أَحْدَثَ»، الحدَثُ يُطلَق عَلى مَسَائلَ مُتعددةٍ، مِنهَا:
يُطلَق علَى مَن فَعَل مُحرَّمًا.
يُطلَق عَلَى مَن فَعَل كُفرًا.
يُطلَق عَلَى البِدْعةِ.
فَلَيسَ قَولُه : «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»، كَقَولهِ: «إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ».
كَمَا أنَّه -أَيضًا- لَيسَ كَقَولِه : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
إذَنْ، كُل حَدَثٍ بِحَسَبِهِ، فَالحدَثُ هُنَا مَا أَوْجَبَ وُضُوءًا أَو غُسْلًا، فَمَا يُوجِب الوُضوءَ يُسمَّى حَدَثًا أَصْغرَ، ومَا يُوجِب الغُسْلَ يُسمَّى حَدَثًا أَكْبرَ.
وَقَولهُ: «حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، (حَتَّى) هُنَا غَائِيَّة المعنَى، أي: إِلَى أنْ يَتَوضَّأ.
مِن فَوَائدِ هَذا الحَدِيثِ:
• الفَائِدَةُ الأولَى: أنَّ اللَّهَ يَقـبَلُ وَلا يَقـبَلُ، فَفِـيهِ إِثْـبَاتُ الأَفعَـال الاخْتِيَاريَّةِ للَّهِ.
والأَفعَالُ الاخْتِيَاريَّة هِيَ التِي تَقَعُ بِمَشيئَتهِ وَاختِيَارِهِ، -وكُلُّ شَيْءٍ بِاختِيَارِه- فَلَا أَحَدَ يُجْبِرُهُ.
وَمَنَعَ قَومٌ مِن ذَلكَ، وَقَالوا: «لَا يُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ بِاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِاخْتِيَارِهِ صَارَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَحَدَثَ فِيهِ القَبُولُ، وَمَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، فَهُوَ حَادِثٌ»، وَهذِهِ قَاعِدَة عَقلِيَّةٌ فَاسِدةٌ، بَل قَاعِدَة وهْمِيَّة؛ لِأنَّ المَبنِيَّ عَلَى العَقلِ حقِيقَةٌ صَحِيحَةٌ، لَكنَّ هَذه القَاعدَةَ وَهْميَّةٌ!فَيَقولُونَ: لَا تَصِفِ اللَّهَ أَنَّهُ يَنزِلُ إِلَى السَّماءِ الدُّنيَا، وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَقبلُ، وَيَرد، لأَنَّ هَذهِ أَشياءُ حَوادِثُ، وَالحَوادِثُ لا تَقومُ إلَّا بحَادثٍ، سُبحَانَ اللَّهِ!لَكنَّنا إذَا قُلنَا: إِنَّ اللَّهَ لا تَقُوم بِهِ الحَوادِثُ لزِمَ مِن هَذَا ألَّا يَكُونَ فَعَّالًا لِـمَا يُريد، لِأنَّ الفَعَّالَ لـما يُريدُ هُو الَّذي يَفعلُ مَا يُريدُ، وَإنْ شَاءَ لم يَفعَلْ فَيَلزَمُ مِن هَذَا تَعطِيلُ اللَّهِ مِن أَعظَمِ مَا يتعَلَّق بِالرُّبوبِيَّة، وَهوَ الفِعْلُ والتَّدبِيرُ.
فَهَؤلاءِ -وَالعِياذُ بِالله- كُلَّما فَرُّوا مِنْ شَيْءٍ وَقَعوا في أَخبَثَ مِنهُ وَأَشَرَّ، لأَنَّ عَقيدَتَهم مَبْنِيَّةٌ علَى أَوْهَامٍ وَخيَالَاتٍ فَاسِدَةٍ.
• الفَائِدَةُ الثَّانيةُ: اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِكُلِّ مَن أَرَادَ الصَّلاةَ وَكَانَ مُحدِثًا، لِعُمومِ قولِهِ: «صَلَاةَ أَحَدِكُمْ».
فَلَوْ صَلَّى المُحْدِثُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَصَلَاتُهُ مَرْدُودةٌ؛ لأنَّ الحَدِيثَ لم يُقَيِّدْ، وَعَليهِ الإِعَادَةُ، وَيَرتَفِعُ عَنهُ الإثْمُ، لِقَولِ الله تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:٢٨٦].
وَمَن يُصلِّي وهُوَ مُحدِثٌ وَهُو لَا يَدْرِي كَالَّذي يَأكُلُ لَحْمَ إِبلٍ، وَهُو لا يَدْري أنَّه نَاقضٌ لِلوُضوءِ.
وَكَذلِكَ أَنْ يَفْسُوَ وَيَظنُّ أنَّ الَّذي يَنقُضُ الوُضوءَ هُوَ الضُّرَاطُ، مُحتَجًّا بِقَولِهِ ﷺ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
• الفَائِدَةُ الثَّالثةُ: تَعظيمُ شأنِ الصَّلاةِ، حَيثُ لَا يَقبَلهَا اللُه إلَّا وَالعَبدُ قَد طَهَّر بَدَنَه كَما يُطهِّرُ قلبَهُ.
وَلَا تُلحَقُ الصَّلاةُ بغَيرهَا في اشتِرَاطِ الطَّهارةِ، وَلَيس هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَمَثَلًا الطوَافُ لَا نَقولُ: إنهُ لا يَقبَلُ اللَّهُ طَوافَ أحدِكم إذَا أَحدَثَ حَتَّى يَتَوضَّأَ، لأنَّه لم يَردْ عَنِ النَّبيِّ وَصَحيح أنَّ الوُضوءَ مَشروعٌ للطَّواف لِأنَّ النَّبِي ﷺ تَوَضَّأَ لِطَوافهِ، وَلأنَّ الطَّوَافَ يَعقُبه صَلاةُ رَكعَتَيْن خَلفَ المقَامِ مُباشَرةً، وَلَا بُدَّ في الصَّلاةِ مِنَ الطَّهارَة، لَكنِ الشَّأنُ كلُّ الشَّأنِ هَلِ الطَّهَارةُ شَرطٌ في الطَّوَافِ أَم لَا؟
فَعَلَى رَأيِ مَن يَرى اشترَاطَ الطَّهارةِ للطوَافِ، فَإن مَن أَحدَثَ في الطوَافِ لَو عَادَ لأَهلِهِ وَبَلدِهِ صَار مُحرَّمًا علَيهِ أهلُه، وَيَكونُ قَد وَقعَ في كثيرٍ منَ المحظُوراتِ الَّتِي فَعَلَها؛ لأنَّه قَد فَعلَ -عَلى رَأْيهم- محظُوراتِ الإِحرامِ، لأنَّه لم يَحلَّ من نُسُكِهِ بعدُ، بِاعتبَار طوَافِهِ فَاسِدًا.
وَالحقِيقَةُ أَن الإِنْسَانَ لَا يَستَطيعُ أَن يُوَاجِهَ رَبَّه بِمثلِ هَذَا الحكمِ بَين عِباد اللَّهِ إِلا بشَيْءٍ يَحتَج بِهِ عِندَ اللَّهِ، فنَقولُ: إِنَّه لا دَليلَ صَحيحٍ عَلَى اشتِرَاطِ الطَّهارَةِ لِصحَّةِ الطوَافِ، لكنِ الَّذي وَرَدَ أنَّه مَشروعٌ للطَّائف أَن يَتَوَضَّأَ.
أي يخرج ريحا بغير صوت يسمع.
المصباح المنير فسا.
خروج الرِّيح من الاست بصوت.
المعجم الوسيط ضرط.
فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ النبِيُّ ﷺ قَالَ لِعائِشةَ : «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي الْبَيْتَ»، وَأَيضًا: ألَيْسَ لـمَّا قِيلَ لَه: إِنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ، قَالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» قُلْنَ: بَلَى.
فنَقولُ: هَذَا ثَابتٌ ولَا شَكَّ، وَلَا طَوافَ لِلحائِضِ، لَكنَّ مَن أَحدَث حَدَثًا أَصغرَ لَا شَكَّ أنَّه غَير الحائِض، لِأَنَّ الحائِضَ لها أحكَامٌ كَثيرَةٌ متَعَلِّقَةٌ بهَا، لَا يسَاويهَا مَن أَحدَثَ حَدَثًا أَصغَرَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُلحقَ مَن أَحْدَثَ حَدَثًا أَصغرَ بِمَن حاضَتْ، معَ التَّفَاوتِ العظيمِ بَينَهمَا في كَثيرٍ مِنَ الأَحْكامِ.
فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا تَقولونَ في حَدِيثِ ابنِ عَباسٍ : «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الكَلَامَ»؟
قُلنَا: هَذَا لا يَصِحُّ عَنِ النبِيِّ ﷺ لِأَنَّ كَلَامَ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- لَا بُدَّ أَنْ يَكونَ مُحرَّرًا غَيرَ مُتناقِضٍ وَغَيرَ مضْطَربٍ، لَكنَّ هَذَا مُتَنَاقضٌ؛ لأَنَّه يَقْتَضِي أنَّه لَيسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مُباحٌ مِمَّا يَحْرُم في الصَّلاةِ إلَّا الكَلامَ، وَهَذَا غيرُ صَحيحٍ.
فَالأَكلُ والشُّربُ مُباحَان في الطوَافِ وَيَحرُمانِ في الصَّلاةِ، وَتُبَاح القَهقَهَةُ في الطوافِ وَتَحْرُم في الصَّلاةِ، وَكَذلِكَ استِدْبارُ القِبلةِ يُبطِلُ الصَّلاةَ، أمَّا في الطوافِ فَيَجبُ أَن تَكُونَ الكَعبَةُ عَن يَسَارِكَ.
أَكثَرُ الأَحْكام تختَلِفُ بينَ الصَّلاةِ وَالطوَافِ، وَلهذَا قَالَ شَيخُ الإسْلَام : «إِنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَإِنَّ طَوَافَ المُحْدِثِ صَحِيحٌ».
وَلَا نُرِيدُ أَنْ نَفتَحَ البَابَ للنَّاسِ حَتَّى يَتَهَافتُوا عَلَى الطوافِ بِغَير وُضُوءٍ، لكِنَّنَا إذَا حَدَثَ شَيْءٌ يَحتَاجُ إلى الرأْفَةِ، وَإلَى رَفعِ الحَرَجِ فَلَا بَأْسَ بهِ.
ومَسُّ المصحَفِ في حَديثِ عَمْرو بنِ حَزمٍ، وَهُوَ حَديثٌ مُرسَل، وَقَد تَلقَّتهُ الأمَّةُ بِالقَبُولِ، قَولُه: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ»، فَهَذَا الحَدِيثُ اختَلَفَ فيهِ العُلَماءُ، أوَّلًا: في تَصْحيحِه، وَثَانيًا: في مَدْلُولِهِ.
أَمَّا في الثُّبوتِ: فَقيلَ: إِنَّ هَذَا حَديثٌ مُرسَـلٌ، وَالمُرسَـلُ مِنْ أَقْسَـام الحَدِيثِ الضعِيف، وَحِينئذٍ لَا حُجَّةَ فيهِ.
ودُفِعَت هَذِه العِلَّةُ بِتَلقِّي الأمَّةِ لَه بِالقَبولِ، وَشهَادَة النُّصُوصِ لِـمَا فيهِ منَ الْأَحْكامِ، لأنَّ لَه شَواهدَ قَويَّةً في بَعضِ الْأَحْكامِ، كَمَسأَلةِ الدِّيَات والزَّكَوات.
وأَما الاخْتِلَافُ في الدَّلالَة: فقَدْ نُوزِعَ في مَعْنى كَلِمة (طَاهِرٌ).
فقِيلَ: إنَّ (طَاهِرٌ) بِمَعْنى مُؤمِن، وَأنَّه يَحْرمُ عَلَى الكَافرِ مسُّ المصحَفِ، أَمَّا المُؤمِنُ فَهُو طَاهِرٌ فَيَمَسُّه، لِقَول النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ-: «إِنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ»، فَهوَ طَاهِرٌ، وَيؤيِّدُ ذَلكَ وَيُرشِّحُهُ وَيُقوِّيه: أَنَّ هَذَا الكِتَابَ كتبَهُ النَّبيُّ ﷺ لأهْل اليَمَن معَ عَمرِو بنِ حَزمٍ، وَأهْلُ اليَمنِ إذْ ذَاكَ فيهِم مُؤمِنٌ وَفيهِم كَافرٌ، فَيَكُونُ مَعْنى «إِلَّا طَاهِرٌ»، أَي: إِلَّا مُؤْمِن.
ودُفعَ هَذا القَولُ: بأنَّنَا تَتبَّعْنا القُرْآنَ والسُّنَّةَ، فَلَمْ نَجِدْه يُطْلَق عَلَى المُؤمِنِ اسمُ (طَاهِرٌ)، وَإنَّما تُعَلَّق أحكَامُ المُؤمِنينَ بالإِيمَانِ أَوِ التَّقوَى.
مِثَال: لَو أَرَادَ الرسُولُ ﷺ المُؤمِنَ، لَقَالَ: «لَا يَمَس القُرْآنَ إلَّا مُؤمِنٌ» كَالعَادَة، وَالطَّاهِر: وَصْفٌ لمنْ تَطَهَّرَ مِنَ الحدَثِ، لِقَولِ اللَّهِ : ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [المائدة:٦]، فَدَلَّ ذلكَ علَى أنَّ المُحْدِثَ نَجِسٌ، وَأنَّ الوُضوءَ أوِ الغُسلَ يُطَهرهُ.
ثُمَّ إنَّ هذَا أحْوَطُ وَأوْرَعُ، وَعَلَى هَذَا فَيكُونُ مسُّ المصْحفِ ثَابِتًا بِدَليلٍ، وَكَما رَأَيتُمُ الآنَ أَنَّ الدَّليلَ فيهِ مَا يُوهِنُه ثُبوتًا، وَمَا يُوهنُه دَلالةً.
فَنقولُ عَلَى سَبيلِ الأَحْوَط: ألَّا يَمَسَّ المُصْحَفَ إِلَّا مَنْ هُوَ طَاهِرٌ مِنَ الحَدَثَيْنِ: الأَصْغَرِ، وَالأَكْبَرِ.
• الفَائِدَةُ الرَّابعةُ: يجوز أنْ نُصَليَ الصلواتِ الخمسَ، أوِ السِّتَّ، أَو السَّبعَ، أَو العَشْرَ بوضُوءٍ واحدٍ، ويُقصَدُ بالستِّ، والسبعِ، والعَشرِ: فَريضَةُ اليَوْم الثَّاني، فَيَجوزُ أنْ يُصلِّيَ عَشرَ صَلَواتٍ بِوُضوءٍ وَاحدٍ مَا دَامَ لم يُحْدثْ، لِقَولِهِ: «إِذَا أَحْدَثَ».
ولَقَد صَلَّى النبِيُّ ﷺ عَامَ الفَتْح الصلَوَاتِ الخمسَ بوضُوءٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلهُ عُمرُ، فقَالَ: إِنَّكَ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْلُ، قَالَ: «عَمْدًا فَعَلْتُ ذَلِكَ»؛ لِيُبيِّنَ جَوازَ جَمْعِ الصلَوَاتِ بوضُوءٍ واحِدٍ.
• الفَائِدَةُ الخَامسَةُ: الاستِنْجاءُ لَيسَ شَرْطًا للوضُوءِ، لقَولِهِ ﷺ: «إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، وَلَم يَقُل: وَلْيغسِلْ ذَكَرهُ، وَمَا أشبَهَ ذَلكَ، فَلَو أنَّ الإِنْسانَ تَوضَّأَ
أَوَّلًا، ثُمَّ اسْتَنجَى ثَانيًا، أوِ اسْتَجْمَر، لَصَحَّ وضُوؤُه، وَهَذَا عَلَى القَولِ الرَّاجِحِ.
وَقَالَ بَعضُ العُلَماءِ: لا يَصِحُّ الوُضوءُ حتَّى يَسْتَنْجِيَ أَو يَسْتَجْمِرَ.
لكنِ الآيةُ والْأَحادِيثُ تَدُل عَلَى أَنَّه لَا عَلَاقَةَ بَينَ الاسْتِنجَاءِ وَبينَ الوُضُوءِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [الـمائدة:٦]، ولـم يَذكُرِ اللَّهُ الفرُوجَ، وَعلَى هَذَا فَيكُون اشْترَاطُ التَّقدُّمِ: الاستِنْجَاء أَو الاستِجْمَار عَلَى الوُضوءِ فيهِ نظَرٌ، فَالصَّوَاب أَنَّه لَا يُشتَرطُ.
وَيُشتَرط لِصِحةِ الصَّلاةِ تَطْهِيرُ المحَلِّ مِنَ البَوْلِ وَالغَائطِ، وَلَكِنَّ هَذَا شَرطٌ مُستَقِلٌّ.
وَإنْ سَأَلَ سَائِل: هَل يُؤخَذُ مِنَ الحَدِيثِ أنَّه لَو وَضَّأه غَيرُه لم يَصِحَّ؟
فَالجَوَابُ: أنَّه قَالَ: «حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، وَلم يَقُل: «أَو يُوضِّئهُ غَيْرُهُ»، فَلَنَا في ذَلكَ أَنْ نَقولَ: إِمَّا عَلَى الغَالِبِ، أَو مَن وَضَّأَه غَيرُه بِإذنه فَكَأنَّما تَوضَّأَ هُو بِنَفسِهِ، وَلهذَا يُنسبُ الفِعلُ لِلإِنْسانِ مَع أَنَّ القَائمَ بهِ غَيرُه، وَهَذَا كَثيرٌ، يُقَال: «بَنَى عَمرُو بنُ العَاصِ مَدينَةَ الفُسطَاطِ»، فَليسَ مَعْنَى هذَا أَنَّ عَمرَو بنَ العَاصِ هُوَ الَّذي أَتَى بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، وَلَكِنَّهُ أمَرَ غيرَه، أَو أَذِنَ لِغَيرِه؛ إذَنِ الظَّاهِرُ أنَّهُ يَصحُّ.
وَلَا يُقال: إِنَّ هَذَا استِنَابةٌ في عِبادَة، وَلا تَصحُّ الاستِنَابةُ في العِبادَة، فنَقْل العِبادَة هُنَا مُتَعلقَةٌ بنفْسِ المتَوضِّئِ.
إنَّما الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنَّ كُلَّ شَخصٍ تَوَضَّأ فَيُريدُ أَنْ يُصلَّى عَنهُ، أَو يَخشَى عَلَى نَفسِهِ مِنَ البَردِ فَأَنابَ فلَانًا يَتَوضَّأُ عَنه.
وَالمرَادُ بمَسِّ المصْحفِ مُباشرةُ المس بِالبَشرَة؛ وبناءً على ذَلك: فَلَو لَبِسَ قُفَّازَين أَو جَعلَ مِندِيلًا يَحول بَينهُ وَبينَ المصْحَفِ؛ جَازَ ذَلكَ.
فَإنْ قِيلَ: مَا حُكمُ طُلَّابِ المدَارِس إِذَا مَسُّوا المصحَفَ أَثناءَ المحَاضَرَاتِ، وَهُناكَ صُعوبةٌ أنْ يَتوضَّأَ الجمِيعُ لِكَثرتِهم، وَتَفويتِ أَوقَاتِ المحَاضَراتِ؟
الجَوَابُ: بَعضُ العُلَماءِ يَقولُونَ: إِن الصَّغيرَ يَدخلُ في قَولِهِ ﷺ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ»، وَعَلى كُل حَالٍ، فلَا نَنهَاهم بشِدَّة، أَو نُلزِمُهم الإِلزَامَ الكَامِلَ، إِنما يَنْبَغي تَعْوِيدُهم، أَما إذَا كَانُوا بَالغِينَ عَاقِلِينَ، فهَؤُلاء يُلزَمونَ، وَيُنبَّهُ عَلَيهمْ أنْ يَأتُوا مِن بُيوتِهِم مُتَوَضِّئِينَ، بَل يُحرَمُونَ مِنَ الدَّرس إنِ اقتَضَى الأمرُ ذَلكَ.
فَإنْ قِيلَ: وَمَا الضَّابِط في كَون نَفْي القَبولِ يَتضَمَّن وَجْهين: نَفيَ الصِّحَّة، أَو لَا يَتَضَمَّنُها؟
فالجوَابُ: إِذَا كَانَ نفيُ القَبولِ لِاخْتِلَال وَاجِبٍ أَو فِعْلِ مُحرَّم في العِبَادَة، فَهوَ نَفيٌ لِلصِّحةِ.
فَإن قِيلَ: مَا هُوَ الموقِفُ مِنْ بَعضِ المذَاهِبِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِانْتِقَاضِ وُضُوءِ الرَّجُلِ إِذَا مَسَّ امْرَأَةً فِي الطَّوَافِ؟
الجوَابُ: هَذَا قَولٌ ضَعيفٌ، فَكَوْنُ الإِنْسانِ مُجردَ أنْ يَمسَّ المرأَةَ يُنتَقَض وُضُوؤه، فَهذَا ضَعيفٌ، بَل لَو لمَسَها لِشَهوَةٍ، فَالصحِيحُ أَنَّه لَا يُنتَقَض وُضُوؤه مَا لم يُحْدِث، مَعَ التَّنبيهِ أَنَّ مَسَّ المرْأَةِ الْأجنَبيةِ مُحرَّمٌ.
كتاب الحيل، باب في الصلاة، رقم (٦٩٥٤).
كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم (٢٢٣٠).
(٢ / ١٧٦، رقم ٦٦٤٤).
كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله، رقم (١٩٧٨).
كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (١٧١٨).
كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتَّى يستيقن، رقم (١٣٧)، ومسلم: كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، رقم (٣٦١).
كتاب الحيض، بابٌ تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، رقم (٣٠٥)، ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، برقم (١٢١١).
كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت، رقم (١٧٥٧)، ومسلم: كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، رقم (١٢١١).
أخرجه ابن حبان: (٩ / ١٤٤، رقم ٣٨٣٦).
انظر مجموع الفتاوى (٢٦ / ١٩٨).
أخرجه الطبراني في الكبير: (١٢ / ٣١٣، رقم ١٣٢١٧).
كتاب الغسل، باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره رقم (٢٨٥)، ومسلم: كتاب الحيض، باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، رقم (٣٧١).
حديث السراج: رقم (٢٤٨٨)، كتاب الحيل، باب في الصلاة، رقم (٦٩٥٤)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، رقم (٢٢٥).
أخرجه أحمد (٢ / ١١،٩٤٠)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:2