-->

الطهارة من منظور شرعي: وجوب تعميم الغسل في الوضوء





الغسل في الوضوء

 ■ الحديث: عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

■ حكم الحديث: متفق عليه

شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِمَّنْ كَثُرَتْ عَنْهُمْ رِوَايَةُ الْحدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- وَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَتْ رِوَايَتُهُ مِنْ طَرِيقٍ، صَارَ الْحدِيثُ مِنْ أَقْسَامِ المَشْهُورِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ.

قَولُه ﷺ: «وَيْلٌ» مُبتدأٌ، و«لِلْأَعْقَابِ» جَارٌّ وَمَجرور، صِفَةٌ لَه، و«مِنَ النَّارِ» خبَرُ المبتَدَإِ.

ويقُولُ النَّحْوِيُّون: «لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ مَا لَمْ تُفِدْ، فَإِنْ أَفَادَتْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا»، وَوَجْهُ ذَلكَ: أَن المبْتَدَأَ مَحكُومٌ عَلَيهِ، ولَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ المَحْكُومُ علَيه مَعرُوفًا، فَإِذَا كَانَ نَكِرَةً فَكَيفَ يُحكَم عَلَى النكِرَةِ وَهُوَ غَير مَعرُوف! وَلهَذَا أَمثِلةٌ كَثيرَة، مِنهَا أنْ تَكونَ النكِرَةُ لِلوَعيدِ؛ لِأنَّها إِنْ كَانَتْ للوَعيدِ أَفادَتْ.

مِثَالٌ: تَجدُ الفَرْقَ بَينَ قولِكَ: «رَجُلٌ قَائِمٌ»، وبَينَ قَولِكَ: «وَيْلٌ لِكَذَا وَكَذَا»، الأَوَّلُ (رَجُلٌ قَائِمٌ) لم تُفِد هَذَا الرجلَ، أَمَّا (وَيْلٌ لِكَذَا) فَهيَ مُفِيدَة الوَعيدَ.

وَتَأتي «وَيْلٌ» علَى مَعنَيَيْن:

كَلمَةُ وَعيدٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصوَبُ.

اسمُ وَادٍ في جَهَنَّمَ.

قَولهُ: «لِلْأَعْقَابِ»: الأَعْقَابُ جمْع عَقِب، وهوَ العُرْقُوب، وَهُو مُؤخَّر القَدَم؛ وَلِذَلك سُمِّـيَ عَقِبًا، وَسُمِّيتِ الرِّجْـلُ قَـدَمًا؛ لِأنَّهـا تَتَقدَّم عِندَ الخُـطَا، وَالعَقِبُ يَتأَخَّرُ.

قَولهُ: «مِنَ النَّارِ»: هَذَا خَبرُ المبتَدَإ، وَ«النَّارِ» هِيَ نارُ جَهنَّمَ، أَعَاذنَا الله وَإياكُم مِنهَا.

سَببُ هَذَا الحَدِيثِ: أَنَّ النبِيَّ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- كَان هُوَ وَأصحَابُه في سَفَرٍ، فَأَرْهَقَتْهُم صَلاةُ العَصرِ، فَجَعلُوا يَتَوضَّؤونَ وَيَمسَحونَ عَلَى أقدَامِهم، وَبَعضُهم يَتَوَضَّأ وَلا يَغسلُ قدمَهُ تَامَّةً، فَأُخبِرَ بِهمُ النبِيُّ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- فَنَادَى بأَعلَى صَوْتِه: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، وفي رِوَايةٍ لأَحمدَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ».

إذَنِ الوَعيدُ عَلَى مَن لَمْ يَتِمُّ وضوؤُه، سَوَاءٌ أَجَعَلَ الغَسْلَ مَسْحًا، أَمْ نَقَصَ غَسْلَ شَيْءٍ مِن الْأَعضَاء، فَكُلٌّ مُتَوَعَّدٌ.

مِنْ فَوَائدِ هَذَا الحَدِيثِ:

الفَائِدَةُ الأُولَى: وُجُوبُ تَعْمِيمِ العُضْوِ بالغَسْلِ في الطَّهارَة، وَوَجْهُ الوُجوبِ الوَعيدُ عَلَى مَن تَرَكَهُ، وَهَذَا أَحَد الطُّرقِ الذِي يُستَفَادُ بِهِ التَّحرِيمُ أَوِ الوجُوبُ؛ لأنَّ التَّحرِيمَ والوُجُوبَ قَد يُستَفَادُ مِنَ الصِّيغَةِ، فَالأَمرُ لِلوجُوبِ، والنَّهْيُ للتَّحرِيمِ، لَكنْ قَد يُعرَفُ الأَمْرُ أَوِ النَّهيُ بما يُرَتَّب عَلَيهِ مِن ثَوَابٍ أَو عِقَابٍ.

فإِذَا رُتِّبَ عَليهِ عِقَابٌ كَانَ ذَلكَ دَليلًا علَى أنَّهُ وَاجِبٌ، وإِذَا رُتِّبَ العِقَابُ

عَلَى فِعلِه كَانَ ذَلكَ دَليلًا عَلي تَحرِيمِهِ، وَإنْ رُتِّبَ العِقَابُ عَلَى تَركِهِ كَانَ ذَلكَ دَليلًا عَلى وُجُوبِهِ، وَيَترتَّب عَلَى هَذِه الفَائِدَة:

الفَائِدَةُ الثَّانيةُ: وُجوبُ إِزَالةِ مَا يَمْنعُ وصُولَ الماءِ كالعَجِينِ والدِّهاناتِ، وَوَجْه ذَلكَ أَنَّ المَانِعَ لِوصُولِ الماءِ يَسْتلْزمُ ألَّا يَغْسِلَ ما تَحتَ هَذا المانِعِ، فَيَكُونُ حِينَئذٍ غيرَ مُعَمِّمٍ لِغَسلِ العُضوِ، فَيَقَعُ عَلَيهِ النَّهيُ، فَلَا فَرْقَ بَينَ القَليلِ وَالكَثيرِ، إِلَّا أَنَّهم اسْتَثْنَوا مَا دلَّت السُّنَّةُ عَلَى عَدَم اعتِبَارِه، وَهُو الوَسَخُ الَّذي يَكونُ تَحتَ الأَظفَارِ، لأَنَّ ذَلكَ أَوَّلًا: فِيه مَشَقةٌ، وَثَانيًا: لَم تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ، فلم يَرِد عَنِ النبيِّ  أنَّه كَانَ يَنقُشُ مَا تَحت أَظفَارِه، ثُم إنَّ فيهِ شَيئًا مِنَ التَّنطُّع، وَفيهِ مَشَقَّة.

وعَفَا بعضُ أهْل العِلمِ، وَمنهُم شَيخُ الإسْلَام ابنُ تَيميةَ -رحمةُ الله عَلَيهِ- عَنْ كلِّ شَيْءٍ يَسيرٍ سوَاءٌ كَانَ تَحتَ الأَظفَار، أَو عَلَى ظهْرِ الكَفِّ، أَو عَلَى ظَهر القَدَم، أَو في الذِّراع، أَو في الوَجْهِ، كُل شَيْءٍ يَسِير، وَلا سِيَّما إِذَا كانَ الإِنْسانُ مُبتلًى بِهِ، كَالعَجَّان الَّذِي يَعْجنُ الخُبزَ؛ لِأنَّه لَا يَسْلَم غَالِبًا مِن وُجودِ شَيْءٍ يَسيرٍ يَبقَى في يَدهِ، وَكَذلِك الدَّهَّانُ الَّذي يَدهنُ الجدْرَانَ، فَإنهُ لَا يَسْلَم غَالِبًا مِنْ لُصوقِ شَيْءٍ يَسيرٍ بِيَدهِ.

وَوَجْه هَذَا القَولِ: أنَّ الشَّريعةَ تَدْفَع المشقَّةَ؛ لِقَولِ اللَّ‍هِ : ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:٧٨]، وَمَعلومٌ أَنَّ الَّذي يُمارِسُ مثْلَ هذهِ الأُمُورِ التِي يَكْثُر وقُوعُها، يَشقُّ عَلَيه جِدًّا أَنْ يُلَاحظَ هَذَا، فمَا قَالهُ شَيخُ الإسْلَامِ وَجيهٌ فِيمَن يُبتلَى بِذَلكَ.

• الفَائِدَةُ الثَّالثةُ: التَّهاونُ بالوُضُوءِ مِنْ كَبائرِ الذُّنوبِ، وَجْهُ ذلِكَ الوَعيدُِ، فَقدْ قَالَ العُلَماءُ: «كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَإِنَّهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ».

لَكِنْ هَلْ هُوَ وَعِيدٌ مُعَيَّنٌ أَوْ أَيُّ وَعِيدٍ يَكُونُ مِنَ الْكَبَائِرِ؟

يرَى شَيخُ الإِسْلامِ  أنَّ أيَّ وَعيدٍ يَكونُ عَلَى الذَّنبِ، فَإنهُ يَدلُ عَلَى أنَّه كَبيرَةٌ مِنَ الكَبائرِ، فَيقولُ: «الْكَبِيرَةُ كُلُّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ؛ لِأَنَّ المحَرَّمَاتِ فِيهَا عُقُوبَةٌ عَامَّةٌ».

أَيْ: كُلُّ مُحَرَّمٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، لَكِنْ إِذَا قِيلَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَعَلَيْهِ كَذَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الخَاصِّ، فَحِينَئذٍ يَكُونُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِتَخْصِيصِهِ بِالْعُقُوبَةِ.

• الفَائِدَةُ الرَّابعةُ: إثْبَاتُ وجُودِ النَّار؛ لِقَولهِ: «مِنَ النَّارِ»، فالنَّارُ مَوجُودةٌ الآنَ.

ودَليلُ ذَلكَ مِنَ القُرْآنِ: قَولُ اللَّ‍هِ : ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:١٣١]، فَالصيغَةُ هُنَا فِعلٌ مَاضٍ؛ فَدَل عَلَى كَوْنِ النارِ مَوْجُودةً الآنَ.

كَذلِك قَولُه تَعَالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر:٤٦]، وقَولُه أَيضًا: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ والأَدِلةُ في هَذَا كَثيرَةٌ.

ودَليلُه مِنَ السُّنةِ: أنَّ الرسُولَ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- رَآهَا.

مَسأَلَةٌ: النَّارُ بَاقِيَةٌ وَلَيْسَتْ فَانِيَةً، وَالْقَوْلُ بِفَنَائِهَا قَوْلٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَلَوْلَا أَنَّهُ قِيلَ، لَكَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مِنْ لَغْوِ الْقَوْلِ، وَلَكَانَتْ كِتَابَتُهُ مِنْ زِيَادَةِ المشَقَّةِ.

أي: ماضية.

فَهيَ بَاقيَةٌ أبَدَ الآبدِينَ بِقَولِ خَالِقِها  قَالَ اللَّ‍هُ  في سُورةِ النِّساءِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّ‍هُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء:١٦٨-١٦٩]، وَهَذَا صَريحٌ، فَإذَا كَانَ البَاقِي خَالدًا أَبَدًا فَمَكَانُه بَاقٍ أَبدًا، وإِلَّا فَكَيفَ يُخلَّد إِنْسانٌ أبَدًا في شَيْءٍ يَفنَى؟


!وفي سُورَةِ الأحزَابِ قَالَ اللَّ‍هُ : ﴿إِنَّ اللَّ‍هَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الأحزاب:٦٤-٦٥]، وَهَذا يَنصَرفُ.

وفي سُورَة الجن: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّ‍هَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن:٢٣].

فَخَالِقُهَا الْعَالِمُ بِمَآلِهَا يَحْكُمُ بِالتَّأْبِيدِ، وَهَذَا خَبَرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ، وَعَدَمُ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِي بَعضِ الْآيَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الذِّكْرِ لَيْسَ ذِكْرًا لِلْعَدَمِ، فَكَيْفَ إِذَا وُجِدَ الذِّكْرُ، فَالمسْأَلَةُ إِذَنْ عَقِيدَةٌ، وَيَقِينِيَّة أَنَّ النَّارَ مُؤَبَّدَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَفْنَى.

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: مَاذَا تقُولُونَ فِيمَا ثَبَتَ عَنِ النبيِّ  أَنَّ اللَّ‍هَ قالَ: «وَرَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»؟

قُلنَا: صَدَق اللَّ‍هُ وَرسُولُه، فَرَحمةُ اللَّ‍هِ سَبَقتْ غَضَبَه لَكِن، ألَمْ يجعَلِ اللَّ‍هُ تَعَالى في الإِنْسَانِ عَقلًا؟ أَلم يُرسِلْ إِلَيْهِ الرسُولَ؟ ألم يُقِم عَلَيه الحُجَّةَ؟ ألم تَأتِنَا البيِّناتُ؟ فَهذِه هِيَ الرحْمةُ.

قَال تَعَالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّ‍هِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:١٦٥]، وَقَال تَعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا كتاب التوحيد،

نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّ‍هُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [المُلك:٨-٩]، ثُم نَدَبُوا أنفُسَهُم: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ﴾ [المُلك:١٠-١١].

إِذَنِ اللَّ‍هُ  أَقامَ الحُجَّةَ، وَأَزالَ العُذْرَ، وأَوضَحَ الطريقَ، وَقَالَ: إذَا كَفَرتُم فَأَنتُم مُخلَّدونَ أبَدًا في النَّارِ، فَقَالوا بلِسَان الحالِ وَالمَقالِ: نَخْتارُ الكُفْرَ ونُخلَّد في النَّار أَبَدًا.

وَقَد رَأَيتُ تَعْلِيقًا للشَّيخِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ سَعْدي  عَلَى كِتابِ ابْنِ القيِّمِ -رَحِمَه اللَّ‍هُ تَعَالى- في الْقَضاءِ وَالْقَدَرِ والتَّعليلِ، لـمَّا ذَكَرَ القَولينِ قَالَ: «عَجَبًا لِابْنِ القَيِّمِ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا القَوْلَ الضَّعِيفَ، وَلَكِنْ لِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ»، فَجَعَل شَيخُنَا  هَذَا مِن كَبَوَاتِ ابنِ القَيِّم، وصَدَقَ  فإِنَّنَا نَتَعجبُ مِنْ كَونِ ابنِ القَيمِ  يَنتَصرُ لهَذَا هَذَا الانتِصَارَ، مَعَ أنَّه ذَكَرَ هَذَا وَهَذَا كَعادَتهِ، فهُو طَويلُ النَّفَسِ إِذَا ذَكَرَ المقَارَنةَ بَينَ الأقْوَال، إِذَا قرَأت الْقَوْلَ الأَوَّلَ وَأَدِلَّتَه، ظنَنتَه الصَّوابَ، ثُمَّ إذَا جَاءَ للقَولِ الثَّاني وَأَدِلَّتِه ظَننتَه الصوَابَ، ثُم بَقِيتَ في أُرجُوحةٍ.

عَلى كُلِّ حالٍ، نحنُ نَعْتقِدُ ونَدِينُ اللَّ‍هَ  بِمَا أَخبَرنَا بِهِ في كِتَابِهِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مُخَلَّدونَ فِيهَا أَبَدًا، وَالنَّار أَبَدِيَّة الوجُودِ لَا تَفنَى.

الفَائِدَة الخَامِسةُ: العقُوبَةُ تَتجَزأُ بِحسبِ الذَّنبِ، «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، حمَلَه بعْضُ العُلَماءِ عَلى أَنَّ المُرادَ: أصحَابُ الأَعقَاب، أيْ: وَيلٌ لأَصحَابِها منَ النَّار؛ لِأنَّ العَقِب نَفسَه لا يُهدَّد بِالعقُوبة، لَكنَّ هذَا القولَ ضَعيفٌ مِن وَجْهَين:

الوَجْهِ الأوَّلِ: أنَّه مُخالِف لظَاهر اللفْظِ، فَالنَّبيُّ ﷺ يَقُول: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ»، لا سِيَّما أنَّ صِحةَ الكَلِمةِ الأخرَى: «بُطُون الأقْدَام»، فَإنَّه وَاضِح بِالتَّجزئَة، فَكَيفيقصد كتاب: «شفاء العليل» لابن القيم.

يَقولُ الرَّسُول -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ-: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ»، ونحنُ نَقولُ: «وَيلٌ لأَصحَاب الأعْقَاب»، فَهذَا إخرَاجٌ للَّفظِ عَن ظَاهرهِ، وَلا يُقبَل.

الوَجْهِ الثَّاني: أنَّ كَونَ الوَعيدِ يَقعُ علَى مَا حصَلَتْ فيهِ المخالَفةُ هُو تَمامُ العَدل، وَالله  حكَمٌ عَدْلٌ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: العَقِبُ إذَا تَألَّم، تأَلمَ بقيةُ الجسَد، لِقولِ النبيِّ ﷺ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ».

قُلنا: نَعم، وَلكِنْ تألُّم الجسَد لِتَألُّم عُضوٍ مِن أَعضَائه لَيس كَتألُّمه كلِّه، فَلو كَانَتِ الجُروحُ قَد مَلأَتِ الجسَدَ، فإنَّه أشَدُّ ألَـمًا مِمَّا لَو كَان الجرْحُ في الموضِعِ وَاحدٌ وَلا شَكَّ، كَذلِكَ النَّار إذَا أَصابتِ الأَعقَابَ لَيسَ كَما لَو أَصابَتْ جَميعَ البَدنِ.

----------------------------

كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، رقم (٦٠)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، رقم (٢٤٠).

أخرجه أحمد (٤ / ١٩٠، رقم ١٧٨٥٨).

انظر: «الفتاوى الكبرى» (٥ / ٣٠٣).

مروي عن ابن عباس ، انظر تفسير الطبري (٥ / ٤١).

انظر: «مجموع الفتاوى» (١١ / ٦٥٤).

باب ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، رقم (٧٤٢٢)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:3

إرسال تعليق

أحدث أقدم