باب دخول الاخلاء والاستطابة
■ الحديث: عن عبداللَّه بن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
_____________________________________
القَبرُ: مَدْفِنُ المَيِّتِ الْقَبْرُ، قَدْ يُدْفَنُ فِيهِ، وَقَدْ لَا يُدْفَنُ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ مُهَيَّأً وَلَمْ يُدْفَنْ فِيهِ أَحَدٌ، وَالمُرَاد بِهِ هُنَا مَا دُفِنَ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِقَوْلِهِ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ»، وَقَولُه: «إِنَّهُمَا» أَيِ: القَبرَانِ، وَالمُرَادُ أَصحَابُهمَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ فِي ذَلِكَ تَجَوُّزٌ بِالْقَبْرِ عَنْ صَاحِبِهِ؟
قُلنَا: لَا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ قَد وُجِدَت قَرِينَةٌ تَعَيَّنَ المرَادُ فَلَا تَجوُّزَ.
وَهَذَا هُوَ مَحَطُّ الخِلَافِ بَينَ مَن قَالَ بِالمَجَازِ في اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ، وَمَن لَم يَقُلْ بِه.
فَمَن قَالَ بِه اعتَبَرَ الكَلِمةَ التِي جَرَى فِيهَا المَجَازُ عَلَى أَنَّها كَلِمَةٌ مُنفَرِدَة.
وَمَن لَم يَقُلْ بِه اعتَبَرَ الجملَةَ، فَيقُولُ بِاستِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِقَولِه: «لَيُعَذَّبَانِ» نَفسَ الحُفرَةِ؛ لِأَنَّ الحُفْرَةَ لَا تُعَذَّبُ.
إِذَن، فَقَد بَانَ المُرَادُ الَّذِي لَا يُحتَمَلُ غَيرُهُ مِنَ السِّيَاقِ، وَمَا دَامَ المرَادُ بَيِّنًا مِنَ السِّيَاقِ، فَإنَّه لَا حَاجَةَ إِلَى أَن نَقُولَ بِالمجَازِ، وَهَذَا الَّذِي اختَارَه شَيخُ الإِسلَامِ ابنِ تَيمِيةَ وَتِلمِيذُهُ ابنُ القَيمِ، وَتَكَلمَا في تَأيِيدِه وَتَفْرِيدِ مَا سِوَاه، وَاختَارَه مُحمَّدٌ
الشِنقِيطِيُّ صَاحِبُ (أَضوَاءِ البَيَانِ) في رِسَالَةٍ صَغِيرَةٍ سَمَّاهَا (مَنعُ المجَازِ في القُرْآنِ)، لَكِنْ خَصَّهُ بِالقُرْآنِ، وَوَجْهُه في تَخصِيصِه أَنَّه قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَقْوَى عَلَامَاتِ المَجَازِ صِحَّةَ نَفْيِهِ، وَلَا شَيْءَ فِي الْقُرْآنِ يَصِحُّ نَفْيُهُ».
قَولُه: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ» الجُملَةُ مُؤكَّدَةٌ بِمُؤكِّدَينِ وَهُمَا: إِنَّ وَاللَّامُ، لِأنَّ هَذَا أَمرٌ غَيبِيٌّ يَحتَاجُ إِلَى أَنْ يُؤَكَّدَ حَتَّى يُؤمِنَ الإِنسَانُ بِيَقِينٍ.
«وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»، «وَمَا يُعَذَّبَانِ»: أَي: صَاحِبَا القَبرِ «فِي كَبِيرٍ» أَي: فِي أَي: لَا يُعذَّبانِ فَي كَبِيرٍ عَلَيهِما أَمرٍ شَاقٍّ عَلَيهِما، وَلَيسَ المرَادُ في كَبيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ في الكَبِيرِ شَرعًا؛ لِأنَّ هَذَا مِنَ الكَبائِرِ؛ وَلِـهَذَا جَاءَ في بَعضِ أَلفَاظِ البُخَارِيِّ «وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ»، أَيْ: كَبيرٌ مِن جِهَةِ الذَّنبِ، وَلَيسَ كَبيرًا مِن جِهَةِ التَّحَرُّزِ مِنهُ.
قَولُه: «أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ بَوْلِهِ»، وَفِي لَفظٍ: «لَا يَسْتَبْرِئُ»، وَفِي آخَرَ: «لَا يَسْتَنْجِي»: وَمَعنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَحَدُهُما لَا يَستَبرِئُ مِنَ البَولِ إِذَا بَالَ، فَلَا يَغسِلُ أَثَرَ البَولِ لَا فِي بَدَنِهِ، وَلَا في ثِيَابهِ، وَلَا فِي بُقعَةِ مُصَلَّاهُ، وَلَا يَهتَمُّ.
وَقَولُه: «مِنَ الْبَوْلِ» (أل) هُنَا لِلعَهدِ الذِّهْنِي؛ لِأنَّ الَّذِي يُلَاصِقُ الإِنْسَانَ مِنَ الأَبوَالِ بَولُ نَفسِهِ؛ لِـهَذَا جَاءَ في رِوَايةٍ أُخرَى: «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»، وَإِنَّمَا قُلنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّ مِنَ العُلَماءِ مَن قَالَ: إِنَّ (أل) في البَولِ لِلاستِغرَاقِ،منع جواز المجاز لمحمد الأمين الشنقيطي.
استنجى أي: اسْتَخْرجَ النَّجْوَ من البَطْن، أَو أزَالَه عَن بَدَنِه بالغُسْل والمَسْح، والنجو: مَا يَخْرُجُ من البَطْنِ مِن رِيحٍ أَو غائِطٍ.
تاج العروس (نجو).
وَبَنَى عَلَى ذَلكَ أَنَّ جَميعَ الأَبوَالِ نَجِسةٌ كَمَا سَيَأتِي.
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الْبَوْلِ»، يَعنِي أَنهُ لَا يُبالِي إذَا أَصَابَ البَولُ ثَوبَه أَو جَسدَه، وَكَذلِكَ إذَا بَالَ لَا يَستَنجِي، فَهذَا يُعذَّبُ في قَبرِه عَلى عَدَمِ تَنزُّهِهِ مِنَ البَولِ، وَإذَا كَانَ عَذابُ القَبرِ ثَابِتًا لِعَدمِ التنزُّهِ مِنَ البَولِ الَّذِي التَّنزُّهُ مِنهُ شَرطٌ لِلصَّلاةِ فَكيفَ بِمنَ لَا يُصلِّي وَالعِياذُ بِاللَّهِ.
قَولهُ: «وَأَمَّا الْآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، أَي: بِنَمِّ الحَدِيثِ إِلَى الغَيرِ؛ لِأَنَّ النَّمِيمَةَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مَفعُولَةٍ، أَي: بِالكَلِمَةِ المنْمُومَةِ، أيِ: المَنقُولَةِ.
وَتَعرِيفُ النَّمِيمَةِ: هِـيَ نَقْـلُ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي الْغَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ عَلَى وَجْـهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا.
وَلْيُنتَبَهْ إِلَى هَذَا القَيدِ المُهِمِّ: «عَلَى وَجْهِ الإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا».
مِثَالُ ذَلِكَ: أَتَى شَخْصٌ إِلَى آخَرَ، وَقَالَ لَه: «يَا فُلَانُ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ فُلَانٍ، قَالَ فِيكَ كَذَا وَكَذَا»، مِنْ أَجْلِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ، هَذهِ نَمِيمَةٌ، وَهِيَ مِن كَبائِرِ الذُّنوبِ، حَتَّى إِنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ»، أَي نَمامٌ، وَذَلكَ لـمَا فِيهَا مِن إِفسَادِ الخَلقِ، وَإلقَاءِ العَدَاوةِ بَينَهُمَا.
وَهَذَا سَمَّاهُ الرَّسُولُ ﷺ «الحَالِقَةُ، لَاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ».
وَقَولُنَا: «عَلَى وَجْهِ الإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا» احْتِرَازًا مِمَّا لَو نُقِل كَلَامُ الغَيرِ في الغَيرِ إِلَى الغَيرِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ.
مِثْلَ أَنْ يَرَى شَخْصًا يَرْكَنُ إِلَى آخَرَ مُغْتَرًّا بِهِ، وَالْآخَرُ عَدُوٌّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، فَيَنْقُلُ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ بِالْبَاطِنِ لِيَحْتَرِزَ مِنْهُ، فَهَذِهِ لَيْسَتْ نَمِيمَةً وَلَكِنَّهَا نَصِيحَةٌ، وَوَاجِبَةٌ، بَلْ إِصْلَاحٌ فِي الْوَاقِعِ.
وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَتَحَبَّبُونَ إِلَيْك ظَاهِرًا وَهُمْ يَنْفِرُونَ مِنْك بَاطِنًا، فَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي اغْتَرَّ بِآخَرَ لَا بُدَّ أَنْ نَنْتَشِلَهُ مِنْهُ، وَنَحْرِصَ عَلَيْهِ.
قَـولهُ: «فَـأَخَذَ جَـرِيدَةً رَطْبَـةً»: أَخَـذَ النَّبيُّ بِجَـريدَةٍ رَطبَـةٍ، وَالجَرِيدَةُ هِيَ عَسِيفُ النَّخلِ، وَالرَّطْبُ ضِدُّ اليَابِسِ، «فشَقَّهَا نِصْفَيْنِ» عَلَى طُولِـهَا نِصْفَينِ، وَلَم يَقُلْ: قَطَعَهَا، «فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً»، أَي: رَكَزَ في كِلِّ قَبرٍ وَاحِدَةً، «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟» لِأَنَّ هَذَا أَمرٌ مُسْتغرَبٌ، وَلَم يَكُنِ الرَّسُولُ ﷺ يَفعَل ذَلكَ في المَوتَى، قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»، و«لَعَلَّ» للتَّرجِّي، أَيْ: أَرجُو أَنْ يُخَفِّفَ اللَّهُ عَنهُمَا العَذَابَ إلَى أَنْ تَيبَسَ هَاتَانِ الجَرِيدَتَانِ.
فَعَلَى هَذا، تَكُونُ «مَا» مَصدَرِيَّةً ظَرفِيةً، أي: مُدَّةَ عَدَمِ يُبُوسِهِمَا.
هَذَا الحَدِيثُ ذَكَرَهُ المؤَلِّفُ في (بَابِ دُخُولِ الخَلَاء وَالاسْتِطَابَة) لِقَولِه: «أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ».
■ مِن فَوَائِدِ هَذَا الحَدِيثِ:
• الفَائِدَةُ الأُولَى: ظُهُورُ آيَة مِن آيَاتِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- بِاطِّلَاعِه عَلَى تَعذِيبِهمَا، وَلَيسَ كُلُّ أَحدٍ يُكشَفُ لَه عَن عَذابِ القَبرِ وَلهَذَا لَا نَدْرِي أَمُعذَّبونَ أَو مُنعَّمونَ.
• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: أَنَّ مِنَ البَلَاغَـةِ أَنْ يُؤَكَّـدَ الشَّيْءُ البَعيدُ عَـنِ التَّصَـورِ أَو عَـنِ التَّصدِيقِ بِه، وَتُؤخَذُ مِن قَولِه: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ»، فَهِي جُمْلَةٌ مُؤَكَّدةٌ بِمُؤَكِّدَينِ: وَهُمَا(إِنَّ) و(اللَّامُ)؛ لِأَنَّ المسْأَلَةَ أَمرُ غَيبٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَوكِيدٍ.
فإنْ قال قائِلٌ: إنَّ الصَّحابة سَيُؤمِنُون بما قال وإنْ لم يؤكِّد.
قُلنَا: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ، وَهَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي المَوْتَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُه.
وَهَكَذَا يَنْبَغِي لَك فِي مُخَاطَبَةِ الْغَيْرِ، فَإِذَا خَاطَبْتَهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ عَقْلُه، أَوْ بِمَا يَسْتَبْعِدُ فَهمَه، تُؤَكِّدُ لَهُ الْأَمْرَ حَسَبَ قُوَّةِ إِنْكَارِهِ وَبُعْدِهِ.
• الفَائِدَةُ الثَّالِثةُ: إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبرِ؛ لِقَولِه عَنِ القَبْرَين: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ»، وَعَذَابُ القَبرِ ثَابتٌ بِالقُرْآنِ، وَالسُّنةِ، وَالحِسِّ.
أَدِلةُ القُرْآنِ: قَالَ تَعَالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:٤٦]، وَقَالَ تَعَالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ [الأنعام:٩٣]، و(ألْ) في ﴿الْيَوْمَ﴾ هُنَا لِلعَهْدِ الحُضُورِيِّ، أيِ: اليَوْمَ الحَاضِرَ، ﴿تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾، إِذَنْ فَفِي القُرْآنِ إِثبَاتُ عَذَابِ القَبرِ.
أَدِلَّةُ السُّنةِ: قَالَ النَّبيُّ : «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَالمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ»، وَهَذَا الدُّعَاءُ يَدعُو بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ؛ وَلِهَذَا فَإنَّ مَن نَقَلَ الإِجمَاعَ عَلَى ثُبُوتِ عَذَابِ القَبرِ، فَنَقْلُهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِم يَدعُو بِهَذَا.
أَدِلَّةُ الحِسِّ: فَإِنَّهُ قَدْ يُكْشَفُ لِبَعضِ النَّاسِ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَاسْأَلِ الَّذِينَ يَكُونُونَ لَيْلًا عِنْدَ المَقَابِرِ تَسْمَعُ عَنْهُمْ مَا يُعَجِّبُ، فَأَحْيَانًا يَسْمَعُونَ صِيَاحًا عَظِيمًا،
وَإِفْظَاعًا، وَأَهْـوَالًا، مِمَّا يَـدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَـبْرِ، وَارْجِعْ إِلَى كِتَابِ (الرُّوحِ) لِابْنِ الْقَيِّمِ، تَجِدِ الْعَجَبَ الْعُجَابَ.
• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الإِنْسَانَ قَد يُبتلَى بِأَمرٍ هَيِّنٍ عَظِيمٍ؛ لِقَولِ النَّبِي ﷺ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرَةٍ»، فَقَد يَرتَكِبُ أَمرًا هَيِّنًا في نَفسِهِ وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيم، كَمَا قَالَ تَعَالى في الإِفكِ: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور:١٥].
• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: وُجُوبُ التَّنَزُّه مِنَ البَولِ؛ لِقَولِه: «لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ».
• الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنَ البَولِ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ.
لِأَنَّه تُوُعِّدَ عَلَيهِ بِعِقَابٍ خَاصٍّ، وَكُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ عَلَيهِ بِعِقَابٍ خَاصٍّ فَهُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
• الفَائِدَةُ السَّابِعةُ: أَنَّ البَولَ نَجِسٌ؛ لِثُبُوتِ الوَعِيدِ بِالعَذَابِ عَلى مَنْ لَم يَستَنزِه مِنهُ، فِي قَولِه: «أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ».
• الفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ جَمِيعَ الأَبوَالِ نَجِسَةٌ؛ وَتُؤخَذُ مِن (أل) الَّتِى لِلاستِغرَاقِ.
• الفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا كَانَ الَّذِي لَا يَستَنزِه مِنَ البَولِ يُعذَّبُ في قَبرِه، فَالَّذِي لِا يُصَلي مِن بَابِ أَولى؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَكَيفَ بِمَن فَرَّطَ فِيهَا؟
!فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا قِيَاسَ فِي الْعُقُوبَاتِ، فَالْعُقُوبَاتُ أَمْرُهَا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَقِيسَ.
قُلنَا: إِنْ ثَبتَ القِياسُ فَهَذَا هُو المطلُوبُ، وَإن لَم يَثبُت فَقَد قَالَ اللَّهُ تَعَالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون:٤-٥]، فَإِذَا لَم يُعجِبْكَ هَذَا الاسْتِنبَاطُ، أَتَينَاكَ بِمَا لَا حِيلةَ لَكَ فِيهِ.
مِنْ آدَابِ المُنَاظَرَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ خَفِيًّا فَأُتِيَ بِالِاسْتِدْلَالِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَازَعَ فِيهِ، كَانَ الْأَفْضَلَ، فَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، رَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة:٢٥٨]، قَالَ إِبرَاهِيمُ: دَعْنَا مِن هذا؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾، هَل قَالَ: أَستَطِيعُ؟ ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ فَهَذِه مِن آدَابِ المنَاظَرَةِ أَنَّكَ إِذَا أَتَيتَ بِالوَاضِح، قَطَعْتَ الخَصْمَ، لَكِن إِذَا ذَهبتَ تَأتِي عَمَّن لبَّسَ بِه فَسَتَقِفُ أَنتَ وَإيَّاهُ في دَوَرَانٍ.
• الفَائِدَةُ العَاشِرَةُ: تَحْرِيمُ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَتَرْتِيبُ الْعَذَابِ عَلَيْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- أنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ»، أي: نَمَّامٌ.
• الفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِثبَاتُ قِيَاسِ العَكسِ، فَإِذَا كَانَ يَأثَمُ عَلَى النَّمِيمَةِ الَّتِي فِيهَا الإِفْسَادُ بَينَ النَّاسِ وَالتَّفرِيقُ بَينَهُم، فَضِدُّ ذَلكَ الإِصلَاحِ يُؤجَرُ عَلَيهِ، وَهَذَا يُسَمَّى قِيَاسُ العَكسِ، وَلَقدِ استَعمَلَهُ النَّبيُّ ﷺ في الحَدِيثِ، فَقَالَ: «وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَو وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ لِأَنَّه قَصَدَ بِذَلكَ التَّعَففَ عَنِ الحَرَامِ.
• الفَائِدَةُ الثَّانِيةَ عَشْرَةَ: رَأفَةُ النَّبيِّ ﷺ بِأُمَّته أَحيَاءً وَأَموَاتًا حَيثُ إِنَّه فَعَلَ مَا يُخَففُ بِه العَذَابَ عَن هَؤُلَاء، غَرَزَ في كُلِّ قَبرٍ شِقَّ جَرِيدَة.
• الفَائِدَةُ الثَّالِثةَ عَشْرَةَ: اسْتِحبَابُ التَّسبِيح وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ عِندَ القَبرِ؛ لِيُخَفَّفَ عَنه، وَوَجْهُ الاسْتِدلَالِ: قَالُوا إِنَّ الجَرِيدَةَ تُسَبِّح مَا دَامَت خَضرَاءَ، فَإِذَا يَبَسَتِ انقَطَعَ التَّسبِيحُ، وَهَذَا مَعْنَى قَولِه: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإنَّ انتِفَاعَ الميِّتِ بِتَسبِيحِ الحَيِّ ذِي الشُّعُورِ مِن بَابِ أَوْلَى.
فَلا يُقَالُ: إِنَّ العِلَّةَ مِن قَولِ: إِنَّ الرَّسُولَ قَالَ: «مَا لَمْ يَيْبَسَا» أنَّهُ إِذَا كَانَتَا رَطْبَتَين تُسَبِّحَانِ؟ بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَرَادَ أَن يُخَففَ عَنهُمَا هَذِه المُدَّةَ فَقَط وَفِي ذَلكَ الوَقتِ، لَيسَ هُنَاك سَاعاتٌ تُحَدَّدُ، وَلَيسَتِ المسْأَلَةُ بِالسَّاعَاتِ، فَحَدَّدَهَا بِيُبُوسِ هَذِهِ الجَرِيدَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: مَا الْفَـائِدَةُ مِنْ كَـوْن الرَّسُـول ﷺ يُقَيِّـدُ التَّخْفِيفَ بِهَذِهِ المُدَّةِ، لِـمَاذَا لَـمْ يَجْعَلِ التَّخْفِيفَ عَامًّا؟
قُلنَا: إِنَّ التَّخفِيفَ وَلمدَّةٍ يَسِيرَة يَنفَعُ، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر:٤٩]؛ فالتَّخْفِيف نَافعٌ وَلَو كَانَ يسِيرًا.
• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَا يُستَحَبُّ أَنْ يُوضَعَ عَلَى القَبرِ جَرِيدةٌ رَطْبةٌ أَو غُصْنُ شَجَرَةٍ رَطْبٍ أَو مَا أَشبَهَ ذَلكَ؛ لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرَّسُولِ ﷺ لِهَذَينِ القَبرَينِ اللَّذَيْنِ اطَّلَعَ عَلَى تَعذِيبِهِمَا.
وَمَنْ فَعَل هَذَا فَقَد أَسَاءَ الظَّن بِالمَيِّتِ، وَهِي جِنَايةٌ عَلَيه؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَـم يَضَعهَا عَلَى القَبرِ إِلَّا لِتَخفِيفِ العَذَابِ عَنهُم.
إِذَنْ، فَهُوَ يُعَذَّبُ، فَيُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ بِذَلِكَ، وَأَنْتَ وَضَعْتَ عَلَى أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْك سَوَاء كَانَ أَبُوك، أَوِ ابْنُك، وَضَعْتَ عَلَيْهِ مَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُعَذَّبُ، وَهَذَا لَا شَكَّ غَلَطٌ عَظِيمٌ.
• الفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: حِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى العِلمِ، وَمَعرِفَةِ أَسرَارِ الشَّرِيعَةِ، وَحِكَمِهَا، حِينَ قَالُوا: «لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟»؛ لِأَجْلِ أَنْ يَعْرِفُوا الحِكمَةَ؛ لِأَنَّه مَا مِن شَيْءٍ مِن أَحكَامِ الشَّرِيعَة إِلَّا وَلَه حِكمَةٌ.
• الفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: حُسْنُ خُلُقِ الرَّسولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- حَيْثُ لَم يَنْهَرْهُم، وَلم يَقُل: هَذَا شَيْءٌ لَا عَلَاقَةَ لَكُم بِه، بَل قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»، وَهَكَذَا يَنْبغي لِلإِنْسَان أَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الصَّدرِ، وَنَسأَلُ الله أَن يُعينَنَا عَلَى ذَلكَ؛ لِأَننَا أَحيَانًا يَكونُ صَدرُنَا أَضْيَقَ مِنَ الحُلقُومِ، لَكِنِ استَعِن بِالله، وَاحْرِصْ، وَتحَمَّل، واصْبِر حَتَّى يَأخُذَ النَّاسُ العِلمَ مِنكَ بِطُمَأنِينةٍ وقَبُول، وَهَذَا هُوَ السِّرُ في قَولِهِ تَعَالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضُّحى:١٠]، فَإنهُ يَعُم سَائِلَ المَالِ، وَسَائِلَ العِلمِ.
لَو تَبَيَّنَ أَنَّ صَاحِبَ قَبْرٍ يُعَذَّب فِي رُؤيَا، أَو سَمِعنَا، فَهَل لَنَا أَنْ نَفْعَلَ مَا فَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ؟
الجَوَابُ: لَا؛ لِأنَّ الرُّؤيَا أَحيَانًا يَضرِبُها الشَّيطَانُ مَثَلًا لِيُحزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، أَمَّا السَّمْعُ فَرُبَّما يُسْمِعُكَ الشَّيطَانُ مَا تَكرَهُ، فَلَا يَقِينَ؛ أَلَم تَسمَع مَا يُقَالُ عَنِ الغُولِ.
----------------------------
كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، رقم (٢١٨)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (٢٩٢).
كتاب الأدب، باب: النميمة من الكبائر، رقم (٦٠٥٥).
كتاب الجنائز، باب وضع الجريدة على القبر، رقم (٢٠٦٨).
كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، رقم (٢١٨)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (٢٩٢).
كتاب الجنائز، باب وضع الجريدة على القبر، رقم (٢٠٦٨).
كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم (٦٠٥٦)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم (١٠٥).
أخرجه أحمد (١ / ٦٧)، رقم (١٤٣٠).
كتاب المساجد ومواضيع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، رقم (٥٨٨).
كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم (٦٠٥٦)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم (١٠٥).
كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (١٠٠٦)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب دخول الخلاء والاستطابة /حديث رقم:18