■ الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ».
وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
___________________________________
قَولُه: «لَا يَبُولَنَّ»، نَهْيٌ، وَلَكنَّ الفِعْلَ لـم يُجزَمْ؛ لِأنَّه مُتَّصِل بِنُونِ التَّوكِيدِ، وَالفِعلُ المضَارَعُ إِذَا اتَّصَلَ بِنُونِ التَّوكِيدِ يَكُونُ مَبنيًّا عَلَى الفَتحِ.
قَولهُ: «فِي المَاءِ الدَّائِمِ»، فَسَّرَهُ بقَولِهِ: «الَّذِي لَا يَجْرِي»، وقَولُه: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» بِالرَّفضِ عَلَى أَنَّها جُملَةٌ اسْتئنَافِيةٌ، أيْ: ثُم هُوَ يَغْتَسِل فِيهِ، وَقيلَ: إِنهَا بِالنَّصْب، (ثُم لِيَغْتَسِلَ فِيه) فَتكُونُ «ثُمَّ» بمَعْنى (مَعَ)، يَعنِي: لَا يَبولُ مَعَ الاغْتِسالِ.
فهذَا الحَدِيثُ فِيهِ نَهيٌ لِلإِنْسانِ عَنِ البَولِ في الماءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجرِي، ثُمَّ يَذهبُ يَغْتَسِل مِنهُ؛ لِأنَّ هَذَا فِيهِ مِنَ التَّضَادِّ مَا هُوَ ظَاهِر، فَكَيفَ تَبُولُ فِيهِ وَالبَوْل نَجِسٌ ثُم تَذهَبُ تَتطَهَّر فِيهِ؟
هَذَا تَناقُضٌ، وَرُبمَا يَكونُ المَاءُ قَليلًا، فَإِذَا بَالَ فِيهِ الإِنْسَانُ تَغَيَّر، فيَغْتَسِلُ في مَاءٍ مُتغيِّرٍ نَجِس.
قَولُه: «وَلِمُسْلِمٍ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الـمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ».
هَذَا نَهيٌ عَنِ الاغْتِسَال؛ فَيَكونُ النَّهيُ وَارِدًا مِن وَجْهَين:
الوَجْهِ الأوَّلِ: الْبَوْلُ فِي الماءِ الرَّاكِدِ سَوَاءٌ اغْتَسَلَ فِيهِ أَوْ لَا، وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّهُ
إِذَا جَاءَ فُلَانٌ وَبَالَ فِي هَذَا المَاءِ الرَّاكِدِ، وَجَاءَ الثَّانِي وَبَالَ، وَجَاءَ الثَّالِثُ وَبَالَ، فَإِنَّ الماءَ يَفْسُدُ.
وَأَمَّا الاغْتِسَالُ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ مِنَ الجَنَابةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأنَّهُ لوْ جَاءَ فُلَانٌ واغْتَسلَ، وَجَاءَ فُلَانٌ وَاغْتَسلَ، وَجَاءَ فُلانٌ وَاغْتَسلَ، تَلوَّثَ الماءُ بِالعرَقِ والرَّائِحةِ الكَرِيهَةِ، فَفَسدَ عَلى النَّاسِ.
الوَجْهِ الثَّانِي: الْبَوْلُ فِي الماءِ الرَّاكِدِ ثُمَّ الِاغْتِسَالُ، فَظَاهِرُه أَيْضًا أَنَّهُ أَشَدُّ قُبْحًا، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنِ الْبَوْلِ فِيهِ دُونَ اغْتِسَالٍ، وَالِاغْتِسَالُ دُونَ الْبَوْلِ، فَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ بَابِ أَوْلَى.
مِنْ فَوَائدِ هَذَا الحَدِيثِ:
• الفَائِدَةُ الأُولَى: لَا يَجوزُ لِلإِنْسانِ أَنْ يَبُولَ فِي المَاءِ، ثُم يَغْتَسِلُ فِيهِ.
ولَكِنْ قَد وَرَدَ هَذا الحَدِيثُ فِي لَفظٍ آخَرَ بالنَّهْيِ عَنِ البَولِ في المَاءِ الرَّاكِدِ فَقَط وَإِنْ لَم يَغْتَسِلْ فِيه، فَعلَى هَذَا: يَكُونُ النَّهيُ عَنِ البَولِ في المَاءِ الرَّاكِدِ سَواءٌ اغْتَسلَ أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ.
الفَائِدَة الثَّانِيةُ: إذَا كَانَ الماءُ جَارِيًا فَلا بَأسَ أَنْ يَبُولَ أَو يَغْتَسِلَ فِيهِ مِثلَ الأَنهَارِ أَوِ البِحَارِ؛ لِأَنَّ المَاءَ فِيهَا مُتَكَاثرٌ، أَمَّا إذَا كَانتْ سَاقِيةٌ تَجرِي في مَزرَعةٍ، وَبَالَ الإِنْسانُ في السَّاقِيةِ واغْتَسلَ أَو تَوضَّأَ مِنهَا، فَهذَا لَا بَأسَ بِه، وَلكِن لَاحِظ أنَّه إذَا كَانَ في أَسفَل السَّاقيةِ مَن يُريدُ أَن يَتوضَّأَ، فَليسَ لَكَ أَن تَبولَ فِيها؛ لِأنَّك إذَا بُلْتَ فِيهَا أَفسَدتَها عَلَى مَن بَعْدَك؛ فَلَا تَفعَلْ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ أَنَّ الماءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ، فَهَلْ لَو بَالَ فِي سَاقِيَةٍ أَوْ مَاءٍ رَاكِدٍ بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَفْسُدْ؟
قُلنَا: لَا يَلزَمُ مِن هَذَا الحَدِيثِ أَن تَكُونَ الأَذِيَّةُ لِكَونِه نَجسًا؛ لِأنَّ الَّذِي بَعدَك إذَا رَأَى أَنكَ بُلتَ فيهِ أَو إذَا علِمَ سَيَكرَهه وَهَذا إيذَاءٌ لَه.
• الفَائِدَةُ الثَّالثةُ: حِرْصُ الشَّارِعِ عَلَى كَمَال الطَّهَارَةِ، وَالْبُعْدِ عَنْ وَسَائِلِ تَنْجِيسِ المِيَاهِ، فَيَكُـونُ فِي هَـذِهِ الْـفَائِدَةِ فَـائِدَةٌ أُخْرَى تَنْبَنِـي عَلَيْهَا، وَهِيَ: أَنَّ الـماءَ مَـالٌ تَجِبُ المحَافَظَةُ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّـهُ قَـدْ يَكُـونُ أَغْلَى مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي وَقْتِ الحَاجَةِ.
فَلَوْ كَانَ إِنْسَان فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَعِنْدَهُ إِنَاءٌ يَسَعُ صَاعًا مِنَ الماءِ، وَهُوَ الْآنَ بَيْنَ المَوْتِ وَالحَيَاةِ، إِنْ شَرِبَ مِنْ هَذَا الماءِ حَيِيَ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ مَاتَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِب الماءِ: لَا أَبِيعُ عَلَيْكَ هَذَا الصَّاعَ إِلَّا بِصَاعَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ؛ فَسَيَشْتَرِيهِ، إِذَنْ صَارَ المَاءُ أَغْلَى مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
ولهَذَا قَالَ العُلَماءُ: «إِنَّ المَاءَ مِثْلِيٌّ إِلَّا فِي المَفَازَةِ»، أَي: إِنَّني لَو أَخَذتُ مِنكَ قِرْبةَ مَاءٍ وَأَرَقْتُهَا فَأَملؤُها لَكَ بمَاءٍ، لَكنْ لَو أخَذتُ القِربةَ مِنكَ في مَفَازَة وشَرِبْتُها، فَلمَّا وَصَلْنا البَلدَ، قُلتَ: تَعالَ أَملَأْ لَكَ القِربَةَ بأَي شَيْءٍ، فَهُنا لَا يُجزِئ؛ لِأنَّه غَيرُ مُتَقوِّضٍ، فَيُقَال: كَمْ تُساوِي القِربَةُ في تِلكَ المفَازَة؟ فَلوْ كَانتْ تُساوِي مِئةَ رِيالٍ لَكنَّ القِربَةَ في البَلَدِ تُساوِي رِيالًا وَاحِدًا، فَتعتَبرُ القِيمَةُ في مَكَانِها، فَالماءُ مِثلِيٌّ إلَّا في المفَازَة، فَالمُعتَبَر بِمثلِه.
أَمَّا إِذَا كَانَ الماءُ مُتَنَوِّعًا، وَكَانَ لَهُ قِيمَةٌ شَرْعًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ نُسْرِفَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، كَمَا يُوجَدُ مِنْ بَعضِ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنَ الْإِسْرَافِ
التَّامِّ، وَعَدَمِ مُلَاحَظَة الحَبَّاسَاتِ فِي الماءِ، فَنَجِدُ فِي بَعضِ الْأَحْيَانِ الْبُيُوتَ تَمُرُّ مِنْ عِنْدِهَا وَالخَزَّانُ يَصُبُّ طَوالَ اللَّيْلِ مَاءً، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي
لِأَنَّهُ إِضَاعَةُ مَالٍ، ثُمَّ إِن الماءَ الجَوْفِيَّ -وَالحَمْدُ للَّهِ-فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْأَمَانِ، وَلَكِنَّ السَّطْحِيَّ الَّذِي يَكُونُ مِنَ المطَرِ، هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ شُحٌّ عَظِيمٌ؛
لِأَنَّهُ قَلِيلٌ فِي الْغَالِبِ، ثُمَّ لَـو تَأَخَّـرَ المطَرُ نَضَبَ الماءُ، لَكِـنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُبَالُونَ! وَهَذَا غَلَطٌ
----------------------------
كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، رقم (٢٣٩)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الدائم، رقم (٢٨٢).
كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الرَّاكد، رقم (٢٨٣)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:5