-->

الوضوء كما علّمه النبي ﷺ لأصحابه: شرح وبيان

 

 

النبي ﷺ لأصحابه: شرح وبيان

الحديث: عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: «شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي الحَسَنِ  سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنِ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ  - صلى الله عليه وسلم - فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيهِ ، فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرْفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ في التَّوْرِ  فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيهِ ، فَمَسَحَ بهما  رَاسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ».
 

وفي رواية: «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَاسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ». 

وفي رواية: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنِ صُفْرٍ». التَّوْرُ: شِبْهُ الطَّسْتِ.

■ حكم الحديث: متفق عليه

■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

هَذَا الحَديثُ فِيهِ صِفَةُ وُضُوءِ النَّبيِّ ﷺ، وَلا يَختَلِفُ عَن ذَلكَ إِلا في أَنَّه ذَكَرَ

أَنَّهُ غَسلَ وَجهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيه مَرَّتينِ، وَغَسَلَ رِجلَيهِ وَلم يُبَينْ كَمْ مَرةً غَسلَ رِجلَيهِ، وَالأَصْلُ إِذَا لَم يُبَينِ الْعَدَد أَنَّ الغَسْلَ وَاحِدَةُ.

قَولهُ: «عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الـمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّ‍هِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ ﷺ»، يَعنِي عَنْ كَيفِيتِه، «فَدَعَا»، أَي: عَبدُ اللَّ‍هِ ابنُ زَيدٍ «بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ»، وَالتَّوْرُ شِبهُ الطَّسْتِ، وَالطَّستُ هُوَ الصَّحْنُ، «فَتَوَضَّأَ لَـهُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّ‍هِ ﷺ فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرِ»، فَمَاذَا صَنَعَ؟ «فَأَكفَأَ» وَالفَاءُ فِي (فَأَكفَأَ) لِتَفرِيعِ الجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبلَهَا، و(أَكْفَأَ) أَي: صَبَّ عَلَى يَدَيهِ مِنَ التَّوْرِ، وَمَعلُومٌ أنَّه سَيَصُبُّ في يدٍ وَيَتَلَقَّى المَاءَ في اليَدِ الأُخْرَى، لَكِنْ إِنْ صَبَّ فِي يَدٍ أَطلَقَ الإِنَاءَ ثُمَّ غَسَلَ اليَدَيْنِ بِمَا اجْتَمَعَ في اليَدِ الأُخرَى، «فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا»، وَهَذَا الغَسْلُ سُنَّةٌ؛ لِأنَّ اللَّ‍هَ تَعَالى لَم يَذْكُرْه فِي الآيَةِ، لَكِنَّه سُنةٌ لِتَنظِيفِ الْآلَةِ التِي يَتَوَضَّأُ بِهَا، وَهِيَ: اليَدانِ، «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ» قَالَ: «يَدَيهِ» وَفِيما سَبَقَ قَالَ: «يَدَهُ» أَو «يَمِينَه»؛ لِأَنَّ التَّوْرَ وَاسِعٌ مِثلَ الطَّسْتِ، وَهُنَا أَدخَلَ يَدَيهِ فِي التَّورِ، وَفِي الأَوَّلِ «أَكفَأَ عَلَى يَدَيهِ مِنَ التَّوْرِ»؛ لِأَنَّها الآنَ نَظَّفَتِ اليَدَيْنِ، فَصَارَ غَمْسُهُما فِي المَاءِ مُسْتَسَاغًا «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ»، إِذَنْ يَجْمَعُ بَينَ المَضْمَضَةِ وَالِاستِنْشَاقِ فِي كُلِّ غَرْفَةٍ، «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا» وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَولَهُ: «يَدَه» يَعنِي يَدَيهِ، أي: جَمَعَ الماءَ بِيدَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَه ثَلَاثًا «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ».

فَمُقتَضَى قَولِهِ: «فَغَسَلَهُمَا» أَنْ يَكُونَ المَعنَى أَدخَلَ يَدَيهِ، وَلَكنْ مَعَ ذَلكَ لَو كَانَ المَعنَى أَدخَلَ يَدَيهِ فَالمُرَادُ أَدْخَلَ كُلَّ يَدٍ وَحْدَهَا؛ لِأنَّه سَوفَ يَبدَأُ بِغَسلِ اليُمنَى ثُمَّ اليُسرَى «مَرَّتَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ» المِرْفَقَانِ هُمَا المَفْصِلَانِ بَينَ العَضُدِ والذِّرَاعِ؛ لِأنَّهُ يُرتَفَقُ عَلَيهِمَا وَيُتَّكَأُ، وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّة أَنَّ المِرفَقَيْن غَيرُ دَاخِلَينِ، لَكِنِ السُّنةُ بَيَّنَتْأَنَّهمَا دَاخِلَانِ «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ»، فَسَّرَ الإِقبَالَ وَالإِدبَارَ فِي الرِّوَايَةِ الأُخرَى بَدْءًا بِمُقَدَّمِ رَأسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهمَا إِلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنهُ.

وَكَيْفَ يُعْتَبَرُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ؟

الجَوَابُ: لِأَنَّ هَذَا الْإِقْبَالَ وَالْإِدْبَارَ مِنْ أَجْلِ مَنَابِتِ الشَّعْرِ، فِي المُقَدَّمِ يَنْزِلُ إِلَى الْوَجْهِ، وَفِي المُؤَخَّرِ يَنْزِلُ إِلَى الْقَفَا.

إِذَنْ، وُجُوهُ الشَّعْرِ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَسْتَقْبِلُ أَوَّلًا الشَّعْرَ، وَيَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِشَعْرِ الْقَفَا مُسْتَدْبِرًا، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ شَعْرَ الْقَفَا وَيَسْتَدْبِرُ شَعْرَ المُقَدَّمِ، فَكَانَ المَسْحُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَرَّةً عَلَى ظُهُورِ الشَّعْرِ وَمَرَّةً فِي بُطُونِ الشَّعْرِ.

قَولهُ: «ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ»، «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ»: وَلَم يَذكُرْ عَدَدًا لِلْغَسْلِ، يَقُولُ فِي رِوَايةٍ أُخْرَى: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ»؛ وَذَلكَ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ.

هَذانِ الحَديثَانِ في صِفَةِ الوُضُوءِ، وَاعلَمْ أَنَّ الوُضُوءَ لَهُ صِفَتانِ: صِفَةٌ لَا بدَّ مِنهَا، وَصِفَةٌ أَفضَلِيَّةٌ:

صِفَةُ الْوُضُوءِ الوَاجِبِ:

١- غَسلُ الوَجهِ، وَمِنهُ المَضمَضَةُ وَالاسْتِنشَاقُ مَرةً وَاحدَةً.

٢- غَسلُ اليَدَينِ مِن أَطرَافِ الأَصابِـعِ إِلى المِرفَقَينِ، وَالمِرفَقَانِ دَاخِلانِ في الغَسلِ، مَرَّةً وَاحدَةً.

٣- مَسْحُ الرَّأسِ بِأيِّ صِفةٍ كَانَتْ مَرةً وَاحِدةً، وَمِنَ الرَّأسِ الأُذُنانِ.

٤- غَسلُ الرِّجلَينِ إِلى الكَعْبَينِ مَرَّةً وَاحدةًفَهذَا الوُضوءُ الذِي لَا بُدَّ مِنهُ، وَلا بُدَّ أَن يَجرِيَ المَاءُ عَلَى العُضوِ، فَلَا يَكفِي المَسْحُ إِلا فِي الرَّأسِ، يَعنِي لَو بَلَّ يَدَه وَمَسحَ عَلى ذِراعٍ لَم يَكْفِ، فَلا بدَّ أَنْ يَتقَاطرَ المَاءُ، والدَّليلُ عَلَى أنَّ هَذَا هُـوَ أدْنَى وَاجِبٍ قَـولُ اللِه : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:٦]، لَم يَذكُرِ اللَّ‍هُ إِلا أَربَعةَ أَشيَاء، قَيَّدَ اليَدَينِ بِالمرَافِقِ، وقَيَّدَ الرِّجلَينِ بِالكَعبَينِ، وَلم يُقَيدِ الوَجهَ؛ لأَنَّ الوَجهَ مَعرُوفٌ، فَالوَجْهُ مَا تَحصُلُ بِه المُوَاجَهَةُ، وَهُوَ عَرضًا مِنَ الأُذنِ إِلى الأُذُنِ، وَطُولًا مِن مُنحَنَى الجَبهَةِ إِلى أَسفَلِ اللِّحيَةِ.

صِفَةُ الوُضُوءِ الأَكمَلِ:

اغْسِلْ كَفيْكَ ثَلاثًا.

تَمَضمَضْ وَاستَنشِقْ وَاستَنثِرْ ثَلاثًا.

اغْسِلِ الوَجهَ ثَلَاثًا.

اغْسِلِ اليَدَين ثَلاثًا كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلاثَ مَراتٍ، وَابدَأْ بِاليَمِينِ قَبلَ اليَسارِ.

امسَحِ الرَّأسَ مَرةً وَاحِدةً، مُبتَدِئًا بِالمقَدَّمِ إِلى أَنْ تَنتَهِيَ بِالمُؤخَّرِ ثُمَّ تُعيدُهُمَا، وَهذَا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأنَّ ذَهَابَكَ مِنَ المقدَّمِ إلى المؤَخَّرِ يُعتَبَرُ نِصفَ مَسحَةٍ.

تَمسَحُ الأُذنَينِ لِأنَّ الأُذُنَينِ مِنَ الرَّأسِ مَرَّةً وَاحدَةً، وَلَا نَقُولُ يَبدأُ بِاليُمنَى قَبلَ اليُسرَى، بَل يَمْسَحُهُمَا جَميعًا لِأنَّهما عُضْوٌ وَاحِدٌ مِنَ الرَّأسِ.

وَاعْلَمْ قَاعِدةَ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ يُمسحُ فَتَكرَارُ مَسحِهِ مَكْرُوهٌ، سَواءٌ الرَّأَسُ أَوِ الخُفانِ؛ لأنَّ أَصلَ طَهارَةِ المسْحِ التَّخفِيفُ، وَإذَا كَانَ تَخفِيفًا فَالمُخَفَّفُ لَا يُكرَّرُ.

تَغسِلُ الرِّجلَينِ إِلى الكَعْبَينِ ثَلاثَ مَراتٍ، تَبدَأُ بِاليُمنَى قَبلَ اليُسرَى.

وَإذَا فَرَغْتَ فَإنَّ النبيَّ ﷺ أَخبَرَ أَنَّ الخَطَايَا تَنزِلُ.

مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الحَدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: مِن عَادَةِ السَّلَفِ  أَنْ يُبَيِّنُوا العِلمَ لِلنَّاسِ بِالفِعلِ.

وَجْهُ ذَلكَ قَولهُ: «فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَـهُمْ»، فَكَانَ بِإِمكَانِهِ أَنْ يَصفَ هَذَا الوُضُوءَ بِلِسَانِهِ، لَكِنَّ التَّعْلِيمَ بِالفِعْلِ لَهُ شَأنٌ عَظِيمٌ؛ لِأنَّ الإِنْسَانَ يَكُونُ بِهِ أَكْمَلَ إِدرَاكًا، وَلَيسَ الخَبرُ كَالمعَايَنةِ؛ وَلِأنَّ صُورَتَه تَرتَسِمُ فِي الذِّهنِ بِحَيثُ لَا يَنسَاهُ.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: فِعْلُ الْوُضُوءِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَقَدْ سَبَق.

• الفَائِدَةُ الثَّالِثةُ: الجَمْعُ بَيْنَ المَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ؛ لِقَوْلِهِ: «فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ».

• الفَائِدَةُ الرَّابِعةُ: جَوَازُ الاخْتِلَافِ فِي العَدَدِ فِي أَعضَاءِ الوُضُوءِ.

وَهُوَ غَسْلُ وَجْهِهِ ثَلَاثًا، وَالْيَدَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ مَرَّة، وَكَانَ المُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، الْوَجْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَنْظَفُ مِنَ الرِّجْلَيْنِ، وَالْيَدَانِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا وَسَطٌ، وَالرِّجْلَانِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْأَذَى وَالْوَسَخ، لَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿وَامْسَحُوا﴾ [المائدة:٦]، عَلَى قِرَاءَةِ الجَرِّ؛ حَتَّى لَا يُبَالِغوا في الغَسْلِ.

يَعنِي أَنهُ يَجوزُ أَن يَغسِلَ وَجهَهُ ثَلاثًا، وَيَدَيه مَرتَين، وَرجلَيهِ مَرةً وَاحدةً، وَمِنَ السُّنةِ أَن يُخالِفَ الإنسَانُ أَحيَانًا، أَي مِنَ السنَّةِ أَن يَغسِلَ الإِنسَانُ أَعضَاءَه المغسُولَةَ ثَلاثَ مَراتٍ، وَمنَ السنَّةِ أَيضًا أَنْ يُخالِفَ فَيَغسِل الوَجهَ ثَلاثًا، وَيَغْسِلَ اليَدَينِ مَرتَينِ، وَالرِّجلَينِ مَرَّةً وَاحدَةً، وَلَا حَرجَ في ذَلِكَ.

وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا فَائِدَةٌ: لَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ الْوُضُوءِ التَّنْظِيفَ الْحِسِّيَّ، المَقْصُودُ هُوَ التَّنْظِيفُ المَعْنَوِيُّ، أَنْ يُكَفِّرَ اللَّ‍هُ كُلَّ خَطِيئَةٍ عَمِلَتْهَا الجَوَارِحُ.

• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: مَسْحُ الرَّأْسِ، المَسْنُونُ يَكُونُ بِالْبَدْءِ مِنْ مُقَدِّمَةِ الرَّأْسِ إِلَى الْقَفَا ثُمَّ رَدِّهِمَا، هَذَا الْأَفْضَلُ، وَيُجْزِئُ المَسْحُ مَرَّةً عَلَى الرَّأْسِ دُونَ رَدِّ الْيَدَيْنِ.

لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى النَّاصِيَةِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ فِي هَذَا الحَالِ.

وَفِي هَذَا الحَدِيثِ لَم تُذكَرِ الأُذُنَانِ، فَكَيفَ يَكُونُ الجَمْعُ بَينَهُ وَبَينَ الأَحَاديثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذِكرِهِما؟

الجَوَابُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: كَيْفَ الجَمْعُ؛ لِأَنَّ الجَمْعَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا ظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ، أَمَّا هُنَا فَلَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الذِّكْرِ لَيْسَ ذِكْرًا لِلْعَدَمِ، فَهَبْ أَنَّهُما لَمْ تُذْكَرَا فِي هَذَا الحَدِيثِ، لَكِنْ ذُكِرَتَا فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى، فَلَا نَعْمَلُ بِالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الحَدِيثِ.

وَلِذَلكَ قَالَ في النُّخبَةِ: «زِيَادَةُ رَاوِيهِمَا أَيِ: الصَّحِيحُ وَالحَسَنُ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِـمَا هُوَ أَوْثَقُ».

• الفَائِدَةُ السَّادِسةُ: نَوعُ التَّطْهِيرِ بَينَ (غَسل) و(مَسح)، فَلَو مَسَحَ في مَغسُولِ، وَغَسَل في مَمسُوحٍ، فَلَا يُجْزِئُ، أَمَّا إِذَا مَسَحَ فِي مَغْسُولٍ فَوَاضِحٌ؛ لِأَنَّ المَسْحَ دُونَ الْغَسْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وَغَسْلُ الرَّأْسِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّ‍هِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، بَلِ الْعَكْسُ.

قَالَ بَعضُ العُلَماءِ: يُجزِئُ الغَسلُ؛ لِأنَّ المَسحَ إِنَّما شُرِعَ في الرَّأسِ تَخفِيفًا عَلَى العِبَادِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يَغسِلَ؛ فَقَد أَتَى بِزِيَادةٍ، فَيقَالُ: التَّخفِيفُ عَلَى العِبَادِ مَقصُودُ الشَّرعِ؛ لِقَولِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّ‍هُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ [البقرة:١٨٥].

وَجَاءَ في الحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّ‍هَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ».

وَالعَقلُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَالكَرِيمُ يُحبُّ أَنْ يُقبَلَ كَرَمُه، وَإنْ رُدَّ كَرَمُه، صَارَ هَذَا إِهَانَةً لَهُ.

الفَائِدةُ السَّابِعَةُ: جَوَازُ استِعمَالِ أَوَانِي الصُّفرِ، وَالصُّفرُ نَوعٌ مِنَ المعَادنِ، فَيجُوزُ أَن يَستَعملَ الإنسَانُ لِلوُضُوءِ كُلَّ الأَوَانِي سَوَاءٌ كَانَ مِن حَديدٍ أَو مِن صُفرٍ أو نُحَاسٍ أَو رَصَاصٍ أَو غَيرِ ذَلكَ.

الفَائدَةُ الثَّامنَةُ: بَيانُ كَيفِيةِ مَسحِ الرَّأسِ وَأنَّهُ يُقبِلُ بِهمَا وَيُدبِرُ، وَالإِدبَارُ أَنْ تَبدَأَ بِمُقَدَّمِ الرَّأسِ ثُمَّ تَعُودُ إِلى المُؤخَّرِ إِلى الرَّقَبةِ، ثُمَّ تَرُدُّ يَديْكَ لِلمُقدَّمِ، وَإنْ مَسَحتَ عَلى غَيرِ هَذَا الوَجهِ كَانَ جَائزًا، يَعنِي لَو مَسَحتَ بيدٍ وَاحِدةٍ وَعَمَّمتَ الرَّأسَ كُلَّهُ كَانَ ذَلكَ جَائِزًا.

الفَائدَةُ التَّاسِعَةُ: اسْتِحبَابُ الزِّيَارَةِ لِإخْوَانِكَ المسْلِمِينَ؛ لِقَولِه : أتَانَا رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الزائِرُ يَفرَحُ بِهِ المَزُورُ، فَإنَّهُ يَنبَغِي أَنْ يَزورَه؛ لأنَّهُ إذَا كَانَ يَفرَحُ بِه كَانَتْ زِيارَتُه إِدخَالًا لِلسُّرُورِ عَلى صَاحِبِه، أَمَّا إِذَا كَانَ المَزُورُ لَا يَفرَحُ بهِ فَلا يُسنُّ أَنْ يَزُورَهُ؛ لأنَّهُ يُدخِلُ عَليهِ الغَمَّ وَيُثقِلُ عَليهِ، وَبَعضُ النَّاسِ يَكونُ دَائِمَ الزِّيارَةِ بِحَيثُ يَشغلُ الشَّخصَ عَن حَاجَاتِه الخَاصَّةِ التِي يُحبُّ أَن يَستَعمِلَ وَقتَه في قضَائِها.

فمَسأَلَةُ الزيَارَةِ تَعُودُ إلى حَالِ الإِنسَانِ، وَالإنسَانُ العَاقِل يَعرِفُ هَلِ الزيارَةُ نَافِعَةٌ أَو لَا، وَهَلِ الوَقتُ مُناسِبٌ أَو غَيرُ مُناسِبٍ؟ وَهَلِ المَكانُ الذِي تَزورُه فِيهِ مُناسِبٌ أَو غَير مُناسِبٍ، فَلو كَانَ الإنسَانُ مُستَضِيفًا لِلقَاضِي َوصَارَ يَزورُه إِذَا جَاءَ القَاضِي إلَى المَحكَمةِ، فَهذَا الوَقتُ غَيرُ مُناسِبٍ؛ لأَنَّهُ وَقتُ الحُكمِ بَينَ الناسِ وَتَحاكُمِ الناسِ إلَى القَاضِي، وَلَو كَانَ شَخصٌ يَزورُ إنسَانًا فَأتَاهُ في مَكانٍ لا يُحبُّ أَن يَأتِيَهُ فِيهِ كَدُكانِه مَثلًا وَهُو لَا يُحبُّ أَن يَأتيَ صَديقُه لِلدكَّانِ لِأنَّه يَشغَلُه فَنقُولُ الأَصلُ أَلَّا تَزورَهُ.

----------------------------

كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين إلى الكعبين، رقم (١٨٦)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي ﷺ، رقم (٢٣٥).

كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله، رقم (١٨٥)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي ﷺ، رقم (٢٣٥).

كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، رقم (١٩٧).

نخبة الفكر (ص:١٣).

كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (١٧١٨).

أخرجه أحمد (٢١٠٨، رقم ٥٨٦٦)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:9

إرسال تعليق

أحدث أقدم