-->

النهي عن التنفس في الإناء: دلالات شرعية وطبية

 

باب دخول الخلاء ولاستطابة 

دلالات شرعية وطبية

 الحديث: عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري  - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ, وَلا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلاءِ بِيَمِينِهِ, وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ».

■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉


________________________________________

هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نَهَى عَنْهَا الرَّسُولُ  كُلُّهَا أَيْضًا تَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقَضَاءِ الحَاجَةِ

الأَوَّلُ: «لَا يُمْسِكَـنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَـرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُـوَ يَبُـولُ»، وَذَلكَ تَكرِيمًا لِليَدِ اليُمْنَى، وَجُمْلَةُ «وَهُوَ يَبُولُ» فِي مَوضِعِ نَصبٍ عَلَى الحَالِ، أيْ: وَالحَالُ أَنَّه يَبُولُ.

فَالنَّهيُ هُنَا عَن مَسِّ الذَّكَرِ بِاليَمِين، لَكِنَّه مُقَيَّد في حَالِ البَولِ؛ لأَنَّهُ إذَا أمسَكَ ذَكَرَه بِيمِينِه وَهُو يَبولُ فَربَّما يُصِيبُ يَمينَهُ شَيءٌ مِنَ البَولِ، وَاليَمِينُ حَقُّها الإِكرَامُ وَالبُعدُ عَنِ الأَذَى، وَلهذَا قَيَّدهَا النَّبيُّ ﷺ بِقَولِه: «وَهُوَ يَبُولُ».

فَهَل هَذَا التَّقيِيدُ لَه مَفهُومٌ أَوْ لَا؟

قِيلَ: لَهُ مَفْهُومٌ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ إِنَّمَا يَكُونُ حَالَ الْبَوْلِ؛ فَإِذَا نُهِيَ عَنْهُ حَالَ الْبَوْل، فَفِي غَيْرِ حَال الْبَوْل مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَوْلِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مَسْكِهِ.

وَقِيلَ: الْعَكْسُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ ذَكَرَهُ وَهُوَ يَبُولُ بِالْيَمِينِ، لَا يَأْمَنُ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْل عَلَى الْيَدِ الْيُمْنَى فَتَتَقَذَّرُ بِهِ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَتَجَنَّبَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ يَبُولُ أَوْ لَا.

مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِشَهْوَةٍ، لَكِنَّهُ تَأَكَّدَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْء، فَهَلْ عَلَيْهِ وُضُوء؟

الجَوَابُ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ قَولَه: «إِنَّمَا هُوَ بُضْعَةٌ مِنْكَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ لَو مَسِسْتَهُ كَمَا تَمَسُّ بَاقِي أَعْضَاءِ الْبَدَنِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، أَمَّا إِذَا مسِسْتَهُ المَسَّ الخَاصَّ بِهِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجِدُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أَن يَمَسَّ أُصْبُعَه.

الثَّانِي: «وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلَاءِ بِيَمِينِهِ»، إِكرَامًا لِليَمِينِ وَاحْتِرَامًا لَها، فَالمَعنَى: إِن بَالَ الإِنسَانُ أَو تَغوطَ وَأَرادَ أَن يُطهِّرَ المَحلَّ سَواءٌ بِالأَحجَارِ أَو بِالمنَادِيلِ أَو بِأَي شَيءٍ فَلا يَتَمسَّحُ بِاليَمينِ، لأَنَّ هَذَا إِزالَةُ أَذًى، وَالأَحَقُّ بِمبَاشَرةِ الأَذَى اليُسْرَى.

الثَّالِثُ: «وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ»، أَيضًا ابتِعَادًا عَنِ القَذَرِ وَالأَذَى؛ لِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا تَنَفَّسَ في الإِنَاءِ رُبمَا خَرَجَتْ أَشْيَاءُ ضَارَّةٌ تَعْلَق بِهذَا الإِنَاءِ وَبِالشَّرابِ الَّذِي فِيهِ؛ فَتُقَذِّرَه عَلى النَّاسِ.

يَعنِي إذَا شَربتَ فَافصِلِ الإِنَاءَ عَن فَمكَ عِندَ التَّنفسِ، لَا تَتَنفسْ في الإِناءِ، لِأنَّ التَّنفسَ في الإِنَاءِ يَحصُلُ بِه مَحَاذِيرُ:

أَولًا: أَنهُ رُبمَا يَتصَادمُ نُزولُ المَاءِ مَعَ ارتِفاعِ النَّفسِ فَيَحصُلُ الشَّرَقُ.

ثَانيًا: أَنَّه رُبمَا يَحصُلُ بهذَا التنفُّسِ جَراثِيمُ وَمِيكرُوبَاتٌ فَتعلَقُ في الإِنَاءِ.

ثَالثًا: أَنهُ إِذَا تَنفسَ في الإِنَاءِ وَشَربَ فِيهِ مَنْ بعدَهُ استَقذَرَه.

لِهذَا نَهَى النبيُّ ﷺ عَنْ ذَلكَ.

وَظَاهرُ الحَديثِ أَنهُ لَا يُتنفَّسُ في الإِناءِ سَواءٌ كَانَ هُو الَّذِي يَشرَبُ وَحدَه أَو مَعَ غَيره لَا تَحتَملُ الفَصلَ.

فَإذَا قَالَ قَائلٌ: هَذَا النَّهيُ في هَذهِ الجُمَلِ الثَّلَاثِ هَل هُوَ للتَّحرِيمِ أَو لِلكَراهَةِ؟

فالجَوابُ: أَولًا لَا يَنبَغِي لَكَ أَبدًا إذَا سَمِعتَ النَّهيَ في كِتَابِ اللَّ‍هِ أَو فِي سُنةِ الرَّسولِ أَنْ تَقولَ: النَّهيُ لِلكَراهَةِ أَو لِلتَّحرِيمِ، بَل تَقولُ: سَمِعنَا وَأطَعنَا، فَالصَّحابَةُ  إذَا نَهَى النبيُّ ﷺ عَنْ شَيءٍ لَـم يَكُونُوا يَسأَلُونَه: هَل هُوَ نَهيٌ لِلتَّحرِيمِ أَو لِلكَراهَةِ، وَهذَا الاسْتِفصَالُ فِيهِ نَوعٌ مِن عَدمِ الِانقِيادِ، وَالانقِيادُ التَّامُّ أَن تَقولَ: سَمعنَا وَأَطَعنَا، فإِذَا نَهَى اللَّ‍هُ عَنْ شَيءٍ اجْتَنِبهُ، وَإذَا نَهى النَّبيُّ ﷺ عَنْ شَيءٍ اجْتَنِبْهُ، لَا تَقُل مَكرُوهٌ أَو حَرَامٌ.

لَكِنْ إذَا تَوَرطْتَ وَوقَعتَ في الَّذي نُهيتَ عَنهُ، لَكَ الحَقُّ أَن تَقولَ هَلِ النَّهيُ لِلتحرِيم أَو لِلكَراهَةِ لأَنهُ إذَا كَانَ للتَّحرِيمِ وَجَبتِ التوْبَةُ مِنهُ، وَإذَا كَانَ لِلكَراهَةِ فَالأَمرُ فِيه سَهلٌ.

كَذلِكَ في الأَمْرِ بَعضُ النَّاسِ إذَا سَمعَ الأَمرَ يَقولُ: هَلِ الأَمرُ لِلوُجوبِ أَو الِاستِحبَابِ؟ وَالوَاجِبُ عَليكَ كَمُسلِمٍ إذَا سَمِعتَ الأَمرَ أَن تَقولَ: سَمِعنَا وَأطَعنَا وَافعَلِ المأمُورَ وَلَا تَستَفصِلْ.

وَهذِه قَاعِدَةٌ قَد لَا تَجدُها في كُتبِ أُصولِ الفِقهِ، لَكنْ هِيَ في القُرآنِ الكَرِيمِ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّ‍هَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء:٥٩]، وَهذَا عَامٌّ في الأَمرِ وَالنَّهيِ،فَإذَا كُنتَ مُنقَادًا تَمامًا وَسَمِعتَ اللَّ‍هَ يَنهَى عَن شَيءٍ أَوِ الرَّسولَ يَنهَى عَن شَيْء فَواجِبُ الانقِيادِ أَن نَقولَ: سَمعنَا وَأطَعنَا، وَأَن نَتركَ مَا نَهى اللَّ‍هُ عَنهُ وَرسُولُه، ونَفعَلُ مَا أَمرَ اللَّ‍هُ بهِ ورَسُولُه.

وَيَكفِينَا أَن نَقُولَ فِي هَذَا الحَديثِ إِنَّ النبيَّ ﷺ نَهَى أَنْ يُمسِكَ الرَّجلُ ذَكرَهُ بِيَمينِه وَيَبُولُ، وَنَهى أَن يَتمَسَّحَ مِنَ الخَلاءِ بِيمِينِهِ، وَنَهى أَنْ يَتنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ.

وَأنتَ مُؤمِنٌ فَقُلْ: سَمِعنَا وَأَطَعنَا، وَلَا تَفعَلْ.

■ مِن فَوَائِدِ هَذَا الحَدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: تَفْضِيلُ اليَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ؛ لِقَولِه: «لَا يَمَسَّنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ»، فَإِنَّه يَدُلُ عَلَى جَوَازِ مَسِّه بِالشِّمالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَكرِيمِ اليَدِ اليُمنَي، وَهُو كَذَلِك؛ وَلِهَذَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا بِهَا، وَلَا يُشرَبُ إِلَّا بِهَا، وَلَا يُؤخَذُ إلَّا بِهَا وَلَا يُعْطَى إِلَّا بِهَا، وَمَن خَالَفَ فَأَكَلَ بِالشِّمالِ، أو شَرِبَ بِالشِّمالِ، أَو أَعطَى بِالشِّمالِ، أَو أَخذَ بِالشِّمال، فَقَد خَالَفَ هَدْيَ النَّبيِّ .

• الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: النَّهيُ عَنِ التَّمَسُّحِ مِنَ الخَلَاءِ بِاليَمينِ، وَهُو ظَاهِرٌ.

• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: جَوَازُ التَّمَسُّحِ مِنَ الخَلَاء بِاليَسَارِ، وَيُؤخَذُ مِن قَولِهِ: «بِيَمِينِهِ».

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: التَّمَسُّحُ بِالحَجَرِ وَنَحْوِهُ وَاضِح، لَكِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ أَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَلَوُّثُ الْيَدِ بِالْقَاذُورَاتِ؟

قُلنَا: بَلَى، لَكِنِ المُرَادُ بِمَسْحِ الْقَاذُورَاتِ فِي هَذِهِ الحَالِ إِزَالَتُهَا، فَاعْتُبِرَتِ الْغَايَاتُ دُونَ المَبَادِئِ.

• الفَائِدَةُ الرَّابِعةُ: النَّهيُ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الإِنَاءِ؛ لِقَولِهِ: «وَلَا يَتنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ»؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ وَيُقَذِّرهُ عَلَى غَيرِه.

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلِ النَّفخُ في الإِنَاءِ كَالتَّنفسِ فِيهِ؟

قَد نَقُولُ: لَا، وَقَد نَقُول: إِنَّه أَشَدُّ مِنَ التَّنَفسِ؛ لِأَنَّ النَّفخَ يَسْتَوْجِبُ أَنْ يَدخُلَ في الإِنَاءِ مِنَ الإِنْسَانِ أَكثَرُ مِمَّا يَخرُجُ بِالتَّنفسِ، فَيَكُونُ أَولَى.

وَيُحتَملُ النَّهيُ عَنِ التَّنَفسِ؛ لِئَلَّا يَشْرَقَ الإِنْسَانُ فَتُصيبُه الشَّرقَةُ؛ فَيَتأَذَّى، وَبِناءً عَلَى ذَلِكَ يَكونُ النَّفخُ غَيرَ مَكرُوهٍ، لَكِنِ الفُقَهَاءُ  كَرِهُوهُ في الطَّعَام، وَقَالوا: «وَلَوْ كَانَ حَارًّا فَلَا يُنْفَخُ فِيهِ».

فَإِذَا كَانَ حَارًّا وَأَنْتَ مُتَعَجِّل، فَيُصَبُّ فِي إِنَاءٍ آخَرَ وَيُرَجُّ حَتَّى يَبْرُدَ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَاكِبًا فَيُشَغَّلُ عَلَيْهِ هَوَاءٌ كَالمِرْوَحَةِ مَثَلًا.

أَحَدُ النَّاس اسْتَأْجَرَ بَيْتًا، فَوَجَدَ فِيهِ أَنَّ المَرَاحِيضَ إِلَى اتِّجَاهِ الْقِبْلَةِ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟

الجَوَابُ: نَقُولُ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ: غَيِّرْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَأْتِ بِكُرْسِيٍّ يَتَّجِهُ فِيهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.

مسألة: هَلِ النَّهْيُ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ لِلتَّحْرِيمِ أَمْ لِلْكَرَاهَةِ؟

الجَوَابُ: كُلُّ النَّهْيِ فِي هَذَا لِلْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّنَا نَرَى أَنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ فِي مَسْأَلَة اقْتِضَاء النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ بَابِ الْآدَابِ فَهُوَ لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ.

غُصَّة، أي: ما اعترض في الحلق من طعام أو شراب فتحصل شرْقة، وتكاد أحيانا تقتل.

تاج العروس (غصص).

----------------------------

كتاب الوضوء، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، رقم (١٥٣)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، رقم (٢٦٧)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب دخول الخلاء والاستطابة /حديث رقم:17

إرسال تعليق

أحدث أقدم