-->

شرح حديث "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء": فضل الوضوء وعلامات الأمة يوم القيامة

فضل الوضوء وعلامات الأمة يوم القيامة

 ■ الحديث: وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: سَمِعْتُ خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ».

حكم الحديث: متفق عليه

■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

قَولهُ: «عَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ»، المُجْمِرِ هَذَا لَقَبٌ لِنُعَيْمٍ؛ وَلُقِّبَ بِذَلِكَ لِأنَّه كَانَ يُجَمِّرُ المَسْجِدَ، أَي: يُبَخِّرَهُ.


قَولُه: «إِنَّ أُمَّتِي»: الأُمَّةُ تُطلَقُ عَلَى عِدةِ مَعَانٍ:

١- تُطلَقُ عَلَى الجَماعَةِ؛ مِثلَ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون:٥٢]، وَمثلَ قَولِه تَعَالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ [القصص:٢٣]، وَمِثلَ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران:١٠٤]

٢- تُطلَقُ عَلَى الدِّينِ؛ مِثلَ قَولِهِ تَعَالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء:٩٢]، أَي مِلَّتُكُم مِلةٌ وَاحِدةٌ، وَمِنهُ قَولهُ تَعَالى أَيْضًا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ [الزخرف:٢٢]، أَي عَلَى دِينٍ.

٣- تُطْلَقُ عَلَى الإِمَامِ؛ مِثْلَ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ﴾ [النحل:١٢٠].

٤- تُطلَقُ عَلى الزَّمنِ؛ أَي عَلَى جُزءٍ مِنَ الزَّمَنِ، مِثلَ قَولِهِ تَعَالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف:٤٥]، أَيْ بَعدَ زَمَنٍ.

وأُمَّةُ الرَّسُولِ ﷺ تُطْلَقُ عَلَى أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَأُمَّةِ الْإِجَابَةِ، أَمَّا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، فَتَشْمَلُ كُلَّ خَلْقٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالْجِنِّ، فَكُلُّهُمْ مَدْعُوُّونَ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ ﷺ.

فَالمُرادُ بِهمْ كُلُّ مَنْ أُرسِلَ إِلَيهِمْ رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ فَهُم أُمَّةٌ فَيَشمَلُ المُؤمِنَ وَالكَافِرَ، وَالبَرَّ وَالفَاجِرَ، وَالإِنسَ وَالجِنَّ، كُلُّ هَؤُلاءِ أُمَّةٌ لِلرَّسُولِ  لِأنَّهُ وُجِّهَتْ إِلَيهِمْ رِسَالَةُ النَّبيِّ ﷺ وَالإِيمَان بِهِ.

مِثَالُ ذَلكَ: أُمَّة الدَّعوَةِ قَولهُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ»، فَقَوْلُهُ: «مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» يَعنِي بِذَلكَ أُمَّةَ الدَّعوَةِ؛ لِأَنَّ اليَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ لَيْسَا مِنْ أُمَّةِ الإِجَابَةِ.

فَجَعَلَ مُجرَّدَ السَّماعِ بِالنِّسبَةِ لِليَهودِيِّ وَالنَّصرَانِيِّ حُجَّةً عَلَيهِ، أَمَّا غَيْرُ اليَهودِ وَالنَّصارَى فَلَا بُدَّ مَعَ السَّماعِ مِنَ العِلمِ، لَكِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصارَى لَا يَحتَاجُونَ إِِلى العِلمِ؛ لِأنَّ النَّبيَّ ﷺ مَكتُوبٌ عِندَهُم فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ بِأَوصَافِه التِي تَجعَلُهُم يَعرِفُونَه كَما يَعرفُونَ أَبناءَهُم، وَلِهَذَا جَعلَ النَّبيُّ ﷺ مُجَردَ السَّماعِ بِالنسبَةِ لِليَهودِ وَالنَّصَارَى حُجَّةً، وَهذَا مِنَ الفَرقِ بَينَ اليَهودِ وَالنَّصَارَى وَغَيرِهِمْ.

أَمَّا أُمَّةُ الإِجَابَةِ فَهُمُ الذِينَ استَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّ‍هِ ﷺ وَهُمُ المُؤمِنُونَ.

وَالمُرَادُ في هَذَا الحَديثِ هُوَ أُمةُ الإِجَابَةِ؛ لأَنَّ أُمةَ الدَّعوَةِ لَيسَ لَها وُضُوءٌ وَلَو تَوضَّأَ الوَاحِدُ مِنْهُمْ لَم يَصحَّ وُضُوؤُه إنْ كَانَ غَيرَ مُسلمٍ، فَلَا يَصحُّ أَن يُرَادَ بِالأُمَّةِ هُنَا أُمةُ الدَّعوَةِ.

قَولهُ «يُدْعَوْنَ»: أَيْ: يُنَادَوْنَ حَالَ كَونِهِمْ «غُرًّا مُحَجَّلِينَ»، يَعنِي يُقالُ: أَيهَا الغُرُّ المُحَجَّلُونَ، أَوِ المَعْنَى يُعْرَفُونَ بِالْغُرِّ المُحَجَّلِينَ، هَذَا وَهذَا لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُدعَى إِلى كِتابِها، كَما جَاءَ في الْقُرآنِ الكَرِيمِ، يُدعَوْنَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، غُرًّا أَي بِيضَ الوُجُوهِ، مُحجَّلِينَ أَي بِيضَ الأَعضَاءِ، لِأنَّ الوُضُوءَ فِي الْوَجْهِ، وَفِي اليَدَيْنِ، وفي الرِّجلَينِ، يُدعَونَ غُرلًا مُحجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الوُضُوءِ.

وَقَولهُ: غُرًّا جَمعُ أَغرَّ، وَالأَغرُّ هُوَ الفَرَسُ الذِي في وَجهِهِ بَيَاضٌ، وَالمُحَجَّلُ مِنَ البَهائِمِ هُوَ الذِي كَانتْ أطْرَافُ أَرجُلِه بَيضَاءَ، فَوَصَفَ النَّبيُّ ﷺ أمتَهُ يَومَ القِيَامَةِ أَنَّ

وُجُوهَهُم بِيضٌ تَتَلألَأُ نُـورًا مِن قَولِـه غُـرًّا، وَأَنَّ أَطْرَافَ أَرجُلِهِم كَذَلِكَ تَكـونُ بِيضًا مِنَ النُّورِ، قَالَ النَّبيُّ ﷺ في حَدِيثٍ آخَرَ: «سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ»، أَيْ عَلامَةٌ لَيسَتْ لِغَيرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَهَذَا مِن فَضلِ اللَّ‍هِ  عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ التِي اخْتَصَّهَا بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ.

وَذَلكَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ كَمَا ذَكَرَ اللَّ‍هُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الجاثية: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية:٢٨]، فَهَذِهِ الأُمَّةُ تُدعَى عَلَى هَذَا الوَجْهِ، وَقَولهُ: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِ النَّاسُ.

سُمِّيَ يَومَ القِيَامَةِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:

الوَجْهِ الأَوَّلِ: أَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ لِرَبِّ العَالمَين

الوَجْهِ الثَّانِي: أنَّهُ يُقَـامُ فِيهِ الْأَشْـهَادُ، كَـمَا قَـالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:٥١].

الوَجْهِ الثَّالِثِ: أنَّـهُ يُقَـامُ فِيهِ العَـدْلُ، كَـمَا فِي قَولِـهِ تَعَالَى: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ [غافر:١٧].

قَولهُ: «غُرًّا»: جَمْعُ أَغَرَّ، وَهُوَ الفَرَسُ الَّذِي فِي مُقَدَّم رَأسِهِ عِندَ جَبهَتِهِ بَيَاضٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي كُلِّ وَجْهِهِ، وَالمُرَادُ بِالغُرَّةِ هُنَا لَيسَتْ غُرَّةَ البَيَاضِ، بَل هِيَ غُرَّةُ النُّورِ، فَيَأتُونَ وُجُوهُهُم تَلُوحُ نُورًا.

وَقَولهُ: «مُحَجَّلِينَ»: التَّحَجِيلُ بَيَاضُ أَرْجُلِ الفَرَسِ أَوْ غَيرِهِ مِنَ البَهَائِمِ، بِأَن تَكونَ اليَدَانِ وَالرِّجْلَانِ في آخِرِهِمَا بَيَاضٌ، وَهذَا التَّحجِيلُ -أَيضًا- نَقُولُ فِيهِ مَا قُلنَا في الغُرَّةِ.

قَولُه: «مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ»، «مِنْ»: لِلتَّعلِيلِ، أَي: بِسَببِ آثَارِ الوُضُوءِ، وَ«آثَارِ الْوُضُوءِ» هِيَ: مَحَلُّ مَمَرِّهِ؛ لِأنَّهُ يَمُر بِهَذِه الأَعضَاءِ، و«الوُضُوءِ» بِضَمِّ الوَاوِ مُرادٌ بِهِ الفِعْلَ، وَهُو تَطهِيرُ الْأَعضَاءِ الأَربَعَةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَالأَعْضَاءُ الأَربَعَةُ هِيَ: الوَجْهُ، وَاليَدَانِ، وَالرِّجلَاْنِ، وَالرَّأسُ.

وَلِـهذَا عَبَّرْنَا بـ(تَطهِير)، وَبَعضُ الْعُلَماءِ يَقولُ: (غَسْل) الأَعضَاءِ الأَربَعَةِ، وَلَا بَأسَ أنْ يُعَبَّرَ بِالغَسْلِ؛ لِأَنَّ أَكثَرَهَا يُغْسَلُ.

هَذَا الحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَة الْوُضُـوءِ، وَأَنَّ لَـهُ هَذِهِ الْآثَـارَ وَالمِيزَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ : «سِيمَا -أَيْ: عَلَامَةٌ- لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ»، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا، وَالنَّبيُّ ﷺ سَيَعرِفُ أُمَّتَه بِهذِهِ العَلَامَةِ.

قَولهُ: «فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكمْ أَن يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ»: (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، يَعنِي مَنْ قَدرَ أَن يُطيلَ غُرَّتَه فَليَفعَلْ، مَنْ قَدرَ أَن يُطِيلَ تَحجِيلَهُ فَليَفْعَلْ.

هَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ قَوْلِ أَبي هُرَيْرَةَ، وَلَيسَتْ مِن قَولِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- وَيُسَمَّى مِثلُ هَذَا التَّصَرُّفِ في عُرفِ المُحَدِّثينَ بـ(الإِدْرَاجِ)؛ لِأنَّهُ إِدْخَالُ حَدِيثٍ فِي حَديثٍ مِن غَيرِ بَيَانٍ.

قَولهُ: «أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ»: قَالَ بَعضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِن؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ بَيَاضُ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ لَا يُمْكِنُ تَطْوِيلُهُ، فَأَيْنَ يَذْهَبُ لَو أَرَادَ أَنْ يُطِيلَ، إِلَّا أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الرَّأْسِ أَوِ الرَّقَبَةِ!أَمَّا إِطَالَةُ التَّحْجِيلِ فَإنهَا مُمكِنَةٌ يُمكِنُ لِلإنسَانِ أَن يُطِيلَ التَّحجِيلَ بَدلًا مِن أَنْ يَكُونَ التَّحْجِيلُ إِلَى المِرفَقِ يَكُونُ إِلَى الكَتِفِ، لَكِنَّ المُشكِلَ إِطالَةُ الغُرَّةِ؛ لِأنَّ الغُرةَ

بَياضُ الوَجهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَن يُطيلَ الإِنسَانُ بَياضَ الوَجهِ؛ لِأَنَّ الوَجهَ لَا يَتَّسعُ لِأكْثَرَ ممَّا هُوَ عَلَيهِ، فَتَكُونُ إِطَالَةُ الغُرَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ، وَالنَّبيُّ  لَا يَأتِي بِشَيءٍ مُستَحِيلٍ، وَلهَذَا ذَهَبَ المحَقِّقونَ مِنْ أَهلِ العِلمِ إِلَى أَنَّ قَولَهُ: «فَمَنِ استَطَاعَ أَن يُطِيلَ غُرَّتَهُ.» مِنْ كَلَامِ أَبي هُريرةَ، فَيكُون مُدرَجًا في الحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا قَولُ ابنِ القَيِّمِ في النُّونِيةِ:

وَإِطَالَةُ الْغُرَّاتِ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ *** أَبَدًا وذَا فِي غَايَةِ التِّبْيَانِيَعنِي لَا يُمكِنُ أَنْ تُطالَ الغُرَّةُ.

وَأَبُو هُرَيْرَةَ
قَالَ ذَا مِنْ كِيسِهِ *** فَغَدَا يُمَيِّزُهُ أُولُو الْعِرْفَانِإِذَنْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ كَلَامِ الرَّسُول  وَهَذَا أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الحَدِيثَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ .

اخْتَلفَ العُلمَاءُ : هَلِ الأَفْضَلُ أَنْ يُجاوِزَ الإِنسَانُ مَحلَّ الفَرضِ، أَو أَنْ يَقتَصِرَ عَلى المِرفَقَيْنِ؟

في ذَلِكَ لِلعُلَماءِ قَولَانِ:

الأَوَّلُ: أَنَّهُ تَنبَغِي مُجاوَزَةُ مَحلِّ الفَرضِ.

وَالثَّانِي: لَا يَنبَغِي أَن يُزَادَ عَلى مَا حَددَ اللَّ‍هُ ، إِلى المِرفَقَينِ فِي اليَدَينِ، وَإِلى الكَعْبَينِ فِي الرِّجلَينِ، وَهذَا القَولُ هُوَ الصَّوَابُ، لَكِنَّ المِرفَقَينِ وَالكَعْبَينِ دَاخِلَانِ في الوُضُوءِ.

قَولهُ: «وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ»: الفَاعِلُ هُوَ نُعَيمٌ المُجْمِرُ (يَتَوَضَّأُ)

فَقَولهُ أنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيرَةَ، وَفِي الأَوَّلِ قَالَ: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ»، وَقَالَ: «أَبِي»؛ لِأنَّهُ مَجرُورٌ، وُهُنَاكَ قَالَ: «أَبَا» مَفعُولٌ بِه لِأنَّهُ مِنَ الأَسمَاءِ الخَمسَةِ أوِ السِّتَّةِ، يُنصَبُ بِالأَلِفِ وَيُجَر بِاليَاءِ، وَيُرفَعُ بِالوَاوِ.

قَولُه: «رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَيْنِ»، فَقَالَ: غَسَلَ وَجْهَه، وَلم يَقُل: أَطَالَ؛ لِأنَّه غَيرُ مُمكِنٍ، أَمَّا اليَدانِ، فَقالَ: «حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَيْنِ»، والمَنْكِبُ هُوَ طَرَفُ رَأسِ الكَتِفِ، «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ»، وَالسَّاقَانِ بِمَنزِلةِ الذِّرَاعَينِ لِليَدَينِ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّ‍هِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ»، وَلَـم يَقُلْ: رَأَيتُ النَّبيَّ ﷺ يَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: «سَمِعْتُ»، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الفِعلَ مِنِ اجْتِهَادِه  وَلَيسَ كُلُّ مُجتَهِدٍ مُصِيبًا، أَمَّا مَا ثَبَتَ في حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنَّه: «غَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى شَرَعَ فِي الْعَضُدِ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى شَرَعَ فِي السَّاقِ» هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأنَّه قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبيَّ ﷺ يَفْعَلُ ذَلِكَ»، وَهَذَا نَقُولُ بِه؛ لِأنَّه لَا يُمْكِنُ استِيعَابُ المِرْفَقَيْن، أَوِ الكَعبَينِ إِلَّا بِإِصَابَةِ شَيْءٍ مِنَ العَضُدِ وَشَيْءٍ مِنَ السَّاقِ، وَهَذَا وَاضِحٌ، لِكِنَّ هَذَا التَّطويلَ لـم يُسْندْهُ أَبُو هُرَيـرَةَ  إِلَى رَسُولِ اللِه -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- بَل قَالَ: «سَمِعْتُ».

قَولُه: «يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ»، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ فَلْيَفْعَلْ»: فَنَأخُذُ بِالزَّائِد؛ لِأنَّه لَا يُنافِي النَّاقصَ.

قَولُه: «وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: سَمِعْتُ خَلِيلِـي ﷺ يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ»: نَسأَلُ اللَّ‍هَ أَنْ يَجعَلَنَا مِمَّن تَحلَّى بِهَا، وَالحِليَةُ: مَا يُتَحلَّى بِهِ مِنْ زِينَةٍ

كَالإِسْوِرَةِ، وَالدُّمْلُجِ، وَغَيرِ ذَلكَ مِمَّا يُتحَلَّى بِه مِنَ الزِّينَةِ.

وَأصْلُ التَّحَلي فِي الدُّنيَا: إِنَّما هُوَ مِن خَصَائصِ النِّسَاء، لِقَولِه تَعَالَى: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزُّخرُف:١٨]، يَعْنِي كَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ مُبِينٌ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا للَّ‍هِ الْبَنَاتِ، وَجَعَلُوا لَـهُمُ الْبَنِينَ، أَهَذَا عَدْلٌ أَنْ يَجْعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ مُبِين؟

!؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَلَّى، رَجُلٌ بِرُجُولَتِهِ، أَمَّا المَرْأَةُ تَحْتَاجُ إِلَى التَّحَلِّي؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ أَوَّلًا، وَلِأَنَّهَا رَغْبَةُ الزَّوْجِ ثَانِيًا، وَالزَّوْجُ إِذَا رَآهَا مُتَحَلِّيَةً؛ رَغِبَ فِيهَا أَكْثَرَ؛ وَلِهَذَا أُبِيحَ لَـهَا مِنَ التَّحَلِّي مَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ.

قَولُه: «سَمِعْتُ خَلِيلِـي»: الخُلَّةُ هِيَ أَعظَمُ أَنوَاعِ المحَبَّة.

وَالمَحَبةُ عَشَرَةُ أَنوَاعٍ، ذَكَرهَا ابنُ القَيِّم  في (رَوضَةِ المحِبِّينَ)، أَعلَاهَا الخُلَّةُ، وَفِي القُرْآنِ الكَرِيم: ﴿وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة:٢٥٤]، وَالخُلَّةُ هِيَ المحَبَّةُ الصَّافِيةُ، وَهِيَ أَعلَى أَنوَاعِ المحَبَّةِ.

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيفَ يَقُولُ أَبُو هُرَيرَةَ : «سَمِعْتُ خَلِيلـي» وَرَسُولُ اللَّ‍هِ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ»؟

هي حُلِيٌّ تُلبَس حول المعصم.

انظر المعحم الوسيط (سور).

هو سِوَارٌ يُحِيط بالعَضُدِ.

ويُقَالُ فيه بفَتْحِ اللامِ وضَمِّها.

انظر: تاج العروس، والمعجم الوسيط (دملج).

فَالجَوَابُ: أَنَّ الخُلَّةَ مُتَبَادَلَةٌ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، فَبِالنِّسْبَةِ لِلرَّسُولِ  هُوَ خَلِيلُهُ، مِثْلَ أَنَّكَ خَلِيلٌ، لَكِنَّهُ  لَا يَتَّخِذُنِي خَلِيلًا وَلَا غَيْرِي.

إِذَنْ، هِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ ﷺ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّ‍هِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّ‍هِ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- غَطَّتْ كُلَّ قَلْبِهِ، أَمَّا نَحْنُ فَمَحَبَّتُنَا للَّ‍هِ  غَطَّتْ كُلَّ مَحَبَّة، وَمِنْ بَعْدِهَا مَحَبَّةُ الرَّسُول  فَنَحْنُ نَتَّخِذُهُ خَلِيلًا مِنْ بَيْنِ سَائِر الخَلْقِ، أَمَّا أَنْ تُزَاحِمَ مَحَبَّتُه مَحَبَّةَ اللَّ‍هِ، فَكَلَّا، وَنَحْنُ مَا أَحْبَبْنَاهُ إِلَّا لِمَحَبَّةِ اللَّ‍هِ لَهُ، وَمَحَبَّتُهُ هِيَ للَّ‍هِ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ لَكَانَ بَشَرًا مِنْ بَنِي هَاشِم، وَلِهَذَا يَغْلَطُ كَثِيرًا مَنْ يُقَدِّمُ مُحَبَّةَ الرَّسُول عَلَى مَحَبَّةِ اللَّ‍هِ، فَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ الله، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِرَسُولِ الله ﷺ هَذَا الشَّرَف.

قَولُه: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ»: وَحِليَةُ المُؤمِنينَ في الجَنَّةِ ثَلَاثَةُ أَصنَافٍ:

ذَهَبٌ، وَفِضَّةٌ، وَلُؤلُؤٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ﴾ [الكهف:٣١]، وَقَالَ تَعَالى: ﴿مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج:٢٣]، وقَالَ تَعَالى: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ [الإنسان:٢١].

فإِن سأَل سائِلٌ: هَلِ المَعْنَى أَنَّهُم يَلبَسُونَ هَذَا تَارةً، وَهَذَا تَارةً، أَو يَلبَسونَهَا جَميعًا، أَو يَلبَسُونَ اثْنَينِ مِنهَا مَرَّةً، وَاثنَينِ مِنهَا مَرةً أُخرَى؟

الجَوَابُ: الظَّاهِرُ الجَمِيعُ، فَبِحَسَبِ مَا يَرُوقُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ، إِنْ شَاءُوا لَبِسُوهَا جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءُوا لَبِسُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، لَـهُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُهمْ هَذَا ظَنِّي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّ‍هِ، وَإِنْ شَاءَ اللَّ‍هُ تَعَالَى مَوْعِدُنَا الجَنَّةُ.

قَولُه: «حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُـوءُ»: هَذَا مَحَلُّ المُشكِلَةِ وَالنِّزَاعِ، فَإِلـى أَينَ يَبلُـغُ الوُضُوءُ؟

عَلَى رَأْيِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلَغُ الْوُضُوءُ إِلَى المَنْكِب، وَإِلَى نِصْفِ السَّاقِ أَوْ أَكْثَرَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَرَى أَنَّ اللَّ‍هَ حَدَّدَ مَا يَبْلُغُهُ الْوُضُوءُ، فَفِي الْيَدَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، هَذَا لَيْسَ فِيهِ الذِّرَاعُ كُلُّه، فَالْقَدَمُ إِلَى الْكَعْبِ هَذَا كُلُّه مُحَلَّل، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: «حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» يُحْمَلُ عَلَى الوُضُوءِ الَّذِي أَمَرَ اللَّ‍هُ بِهِ، وَهُو سَائرٌ إِلَى المِرفَقَينِ فِي اليَدَيْنِ، وَإِلَى الكَعْبَينِ فِي القَدَمَيْنِ
.

■ مِن فَوَائِدِ هَذَا الحَدِيثِ:

الفَائِدَةُ الأُولَى: فَضِيلَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ، حَيثُ حَبَاهَا اللَّ‍هُ بِهذِهِ المَنْقَبَةِ العَظِيمَةِ يَومَ القِيَامَةِ

الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: فَضِيلَةُ الوُضُوءِ، وَهُوَ المقْصُودُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ

الفَائِدَةُ الثَّالثَةُ: أَنَّ الإِنسَانَ إِذَا تَوضَّأَ خَرَجتْ خَطايَا أَعضَاءِ الوُضُوءِ عِندَ آخِرِ قَطرَةٍ مِن قَطرَاتِ المَاءِ، وَمَعلُومٌ كَثرَةُ الخَطَايَا في جَوارِحِنَا، نَسأَلُ اللَّ‍هَ أَنْ يُعامِلَ الجَميعَ بِعَفوِهِ.

الفَائِدَةُ الرابِعَةُ: إِثبَاتُ البَعثِ، لِقَولِه: «يَأتُونَ يَومَ القِيَامَةِ»؛ لِأَنَّ المُرَادَ بِيَومِ القِيَامَةِ يَومُ البَعثِ، وكذلك فيه إِثبَاتُ يَومِ القِيَامَةِ؛ وسُميَ يَومَ القِيامَةِ لِأنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ مِن قُبورهِم للَّ‍هِ ، وَلأنَّ بِه إِقامَةُ العَدلِ وَالحَقِّ، يَقُومُونَ فِيهِ مِن قُبُورِهم للَّ‍هِ، وَيُقامُ فيهِ العَدْلُ، وَتَقومُ فِيه الأَشهَادُ كَما قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:٥١].

الفَائِدَةُ الخامسة: أَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَومَ القِيَامَةِ.

وَالدَّعـوَةُ إِذَا وُجِّهَتْ إِلَى فَـرْدٍ مِنَ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ، فَهَلْ يُدْعَى بِاسمِ أَبِيهِ أَو بِاسْمِ أُمِّهِ؟

قَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: إِنَّه يُدْعَى بِاسمِ أُمِّهِ، وَاسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلى حَدِيثِ أَبِي أُمَامةَ البَاهِليِّ الَّذِي رَوَاه أَهلُ الشَّامِ فِي تَلقِينِ المَيِّتِ بَعدَ دَفْنِه، أَنْ يُقَالَ لَه: «يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّ‍هُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّ‍هِ» إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ، لَكِنَّه لَا يَصِحُّ، بَل إِنَّ النَّاسَ يُدْعَونَ يَومَ القِيَامَةِ بِأَسمَاءِ آبَائِهِم، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبيِّ ﷺ فِي قَولِهِ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ».

الفَائِدَةُ السادسة: إِثْبَاتُ الغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ بِسَببِ الوُضُوءِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الأُمَّةِ.

• الفَائِدَةُ السَّابعة
: أَنَّ الإِنْسَانَ قَد يَعْمَلُ العَمَلَ لَا يَظُنهُ أنْ يَبلُغَ مَا بَلَغَ، كَما نَتَوَضَّأُ لَكِنَّ أَكثَرَنَا لَا يَعرِفُ أَنَّ هَذَا الأَثَرَ العَظِيمَ يَكُونُ لِلوضُوءِ.

الفَائِدَةُ الثامنةُ: يَنْبَغِي ذِكْرُ مَا يُرَغِّبُ في الخَيرِ، كَمَا يَنْبَغِي ذِكرُ مَا يُرهِّبُ مِنَ الشَّر، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُلْقِيَ الْأَحْكَامَ جَافَّةً، بَلْ يُلْقِيهَا وَيَذْكُرُ مَا يُحَرِّكُ الْقُلُوبَ لِفِعْلِهَا أَوْ لِاجْتِنَابِهَا.

وَيَنبَغِي إِذَا تَوضَّأنَا أَن نَستَحْضِرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ:

أَوَّلًا: أَننَا مُمتَثِلُونَ أَوامِرَ اللَّ‍هِ، وَهَذَا يُعطِي القَلبَ قُوَّةً في العِبَادَةِ وَالذُّلِّ للَّ‍هِ ، لِقَولِهِ تعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة:٦]، فَاستَحْضِرِ الآيَةَ عِندَ الوُضُوءِ، وَأَنَّكَ تَتَوَضَّأُ امتِثَالًا لِأمرِ اللَّ‍هِ، كَأَنَّكَ تَقولُ بِلسَانِ الحَالِ سَمعًا لَكَ وَطاعَةً يَا رَبُّ، هَذِه وَاحِدةٌ.

ثَانيًا: اسْتَحضِرْ أَنَّ هَذَا وُضُوءَ النَّبِيِّ ﷺ لِتُحَققَ المتَابَعةَ، لأَنَّ نَبيكَ مُحمَّدًا ﷺ تَوضَّأَ عَلى هَذَا الوَجهِ، إِذَن عِندَنَا إِخلَاصٌ وَمُتابعةٌ.

ثَالثًا: احْتسِبِ الأَجْرَ وأَنَّ هذَا الوُضُوءَ يُطهِّركَ مِنَ الخَطَايا، لِأنَّ الخَطايَا كَثيرَةٌ لَكِن يُكَفِّر عِندَ آخِرِ قَطرَةٍ مِن قَطَراتِ المَاءِ، اسْتَحضِرْ هَذَا، لِتكُونَ مُحتَسبًا لِثوابِ اللَّ‍هِ .

وانتَبهُوا لِهذِهِ الثَّلاثِ نِقَاطٍ، فَما أَكثَرَ غَفلَتنَا عَنهَا، حِينَما نَتَوضأُ لِأنَّ الوُضُوءَ مِن شُروطِ صِحَّةِ الصَّلاةِ فَنَتوضأُ لِذَلكَ وَهذَا حَسَنٌ، لَكِن إِذَا اسْتَحضَرتَ المعَانيَ الثَّلاثَةَ صَارَ لِلوُضُوءِ طَعمٌ لَا تِجِدُه إذَا غَضَضتَ عَنهَا، وَلهَذَا يُسَنُّ لَكَ بَعدَ الْوُضُوءِ أَن تَقُولَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّ‍هُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ»، لِتَكُونَ مُطَهرًا لِظَاهِرِكَ بِالوُضُوءِ، وَلِبَاطِنِكَ بِالشَّهَادَةِ.

الفَائِدَةُ التاسعةُ: الحَثُّ عَلَى إِتْقَانِ الْوُضُوءِ وَإِسْبَاغِهِ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تَبْلُغُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ.

الفَائِدَةُ العاشرةُ: جَوَازُ إِطْلَاقِ الخَلِيلِ عَلَى رَسُولِ الله -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- وَهُوَ -إِنْ شَاءَ اللَّ‍هُ تَعَالَى- خَلِيلُه.

الفَائِدَةُ الحادية عشرة: إِثبَاتُ التَّحَلِّي لِأَهلِ الجَنَّةِ وَلَوْ كَانُوا رِجَالًا؛ لِقَولِه: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ»، وَهَذَا يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ.

فَإذَا قَالَ قَائِلٌ: كَيفَ يَحِلُّ التَّحَلِّي في الجَنَّة وَلَا يَحلُّ فِي الدُّنيَا؟

نَقولُ: الْآخِرَةُ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيف، وَالدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيف وَامْتِحَان، هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: فِي الدُّنْيَا الرَّجُلُ لَيْسَ فِي حَاجَةٍ لِلتَّحَلِّي وَإِنْ كَانَتِ الْحِلْيَةُ طَيِّبَةً وَتُجَمِّلُكَ!؛ لَكِنْ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِرُجُولَتِهِ، وَلَا يَكُونُ هَمُّهُ الْهِنْدَامَ وَالتَّحَلِّي وَالتَّطَيُّبَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللَّ‍هُ تعَالَى أَصنَافَ الحِليَةِ ثَلَاثةً:

الأَولُ: الفِضَّةُ، لِقَولِهِ تعَالَى: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ [الإِنسان:٢١].

الثَّانيَةُ: الذَّهبُ.

الثَّالِثُ: اللُّؤلُؤُ.

وَتَصوَّرِ المَنظَرَ العَجِيبَ، يَدٌ مَملُوءَةٌ بِثلَاثَةِ أَنوَاعٍ مِنَ الحُلِيِّ: ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَلُؤلُؤٍ، وَلَيسَ الذَّهبُ كَذَهبِ الدُّنيَا، وَلا الفِضَّةُ كَفِضَّةِ الدُّنيَا، وَلَا اللُّؤلُؤُ كَلُؤلُؤِ الدُّنيَا، بَلْ كَمَا قَالَ : ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:١٧]، وَفِي الحَدِيثِ القُدُسِي: «قَالَ اللَّ‍هُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ»، هَذَا النَّعِيمُ الحَاصِلُ لَـهُم نَعِيمُ الجَسَدِ.

وَالقَلبُ أَيضًا فِي نَعِيمٍ، فِي الدُّنيَا قَد يَنعَمُ البَدَنُ وَلا يَنعَمُ القَلْبُ، قَد يَكُونُ الإِنسَانُ عِندَهُ مِنَ الغِنَى مَا يَلبَسُ أَحسَنَ الثِّيابِ وَيَسكُنُ أَحسَنَ القُصُورِ وَيَركَبُ أَفخَمَ السَّيَّارَاتِ لَكنَّ قَلبَه مُنكَتِمٌ في بَلاءٍ، لَكِن فِي الآخِرَةِ الأَمرُ بِالعَكسِ، نَعِيمُ

القَلبِ وَنَعيمُ البَدَنِ، قَالَ اللَّ‍هُ تَعَالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين:١٨]، وَقَالَ: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ [المطففين:٢٢-٢٣]، هَذَا مِن نَعيمِ القَلبِ، ومِنْ نَعِيمِ البَدنِ قَولهُ تَعَالَى: ﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر:٣٥]، وَلَا يَخافُونَ مِن المَوتِ، وَلَا يَمرَضُونَ، وَلَا يَجوعُونَ.

الفَائِدَةُ الثانية عشرة: أَنَّ الحِليَةَ تَبلُغُ حَيثُ يَبلُغُ الوُضُوءُ، فَتَشمَلُ كُلَّ الذِّرَاعِ.

الفَائِدَةُ الثالثةَ عَشْرَةَ: أَحكَامُ الآخِرَةِ لَيْسَتْ كَأَحكَامِ الدُّنيَا؛ لِأنَّهُ لَيسَ فِيهَا تَكْلِيفٌ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهَا تَكلِيفٌ في بَعضِ الأَحْوَالِ، وَمِنْ ذَلكَ قَولهُ : ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم:٤٢-٤٣].

الفَائِدَةُ الرَّابِعةَ عَشرَةَ: أَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَملِ؛ فَإنَّ الإِنسَانَ لـمَّا أَكمَلَ مَا يَلزَمُهُ في هَذِهِ الدُّنيَا كَمَلَ لَه الثَّوابُ يَومَ القِيامَةِ.

الفَائِدةُ الخَامسِةَ عشْرَةَ: أَنَّهُ يَنبَغِي لِلمُتَوضِّئِ تَجَاوُزَ مَحلِّ الفَرضِ، فَإذَا غَسلَ يدَهُ وَصلَ إِلى المَنكِبِ كُلُّ هَذَا يَغسِلُهُ، الرِّجلُ إِلى السَّاقِ، يَعنِي حِينَ يَغسِلُ مَثلًا لِفِعلِ أَبِي هُريرَةَ ، وَهُوَ رَاوِي الحَديثِ وَأَعلَمُ بِمعنَاهُ، وَإلَى هَذَا ذَهَبَ بَعضُ أَهلِ العِلمِ وَقَالَ: يُسَنُّ لِلمُتَوضِّئِ أَنْ يُجاوِزَ وُضُوؤُه الكَعْبَينِ فِي الرِّجلَيْنِ وَالمِرْفَقَينِ في اليَدَينِ.

وَلكِن الصَّحيحَ خِلَافُ ذَلكَ، وَأنَّهُ لَا يَنبَغِي لِلإنسَانِ أَنْ يُجاوِزَ مَحلَّ الفَرضِ لِظَاهِرِ قَولِهِ تَعَالى: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة:٦]، و﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:٦]؛ وَلأَنَّ الأحَادِيثَ الوَارِدَةَ في صِفةِ وُضُوءِ النَّبيِّ ﷺ لَم يُذكَرْ فِيهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَنَّ النَّبيَّ ﷺ تَجَاوَزَ مَحلَّ الفَرضِ، غَايَة مَا هُنالِكَ مَا رَوَاهُ مُسلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ  أَيضًا أَنَّالنَّبيَّ ﷺ غَسلَ يَدَيهِ حَتَّى أَشرَعَ بِالعَظمِ، وَغَسَلَ رِجلَيهِ حَتَّى أَشرَعَ في الكَعْبَينِ، وَذلِكَ لَا يَقتَضِي أَن يَكُونَ كَما فَعلَ أَبُو هُريرَةَ .

فَالصَّوَابُ إِذَنْ عَدَمُ مَشرُوعِيةِ تَجاوُزِ الفَرضِ؛ لِأنَّ هَذَا هُوَ الثَّابتُ عَنْ رَسولِ اللَّ‍هِ .

وَأَمَّا قَولُ القَائِلِ: إِنَّ رَاوِيَ الحَديثِ أَعلَمُ بِمَعنَاهُ، فَنَقُولُ نَعَمْ لَا شَكَّ أَنَّ رَاوِيَ الحَدِيثِ مِنْ أَعلَمِ النَّاسِ بِمَعنَاهُ، لَكِنْ إِذَا جَاءَتِ السنَّةُ عَلى خِلافِ مَا فَهِمَ هَذَا الرَّاوِي فَلا نَأخُذُ بِفَهمِهِ وَنَدَعُ السنةَ، بَل نَأخُذُ بِالسنَّةِ وَنَدَعُ فَهمَهُ.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الإنسَانَ قَدْ يُخطِئُ وَإنْ كَانَ عَالِيَ المنزِلَةِ، يُؤخَذُ مِن فَهمِ أَبي هُريرَةَ ، حَيثُ فَهِمَ أَنَّ المُرَادَ بِالحَدِيثِ التَّرغِيبُ بِمُجَاوَزةِ مَحلِّ الفَرضِ وَالأَمرُ لَيسَ كَذلِكَ.

الفَائِدةُ السَّابعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الإنسَانَ مَهمَا عَظُمَ في الذَّكَاءِ وَالحِفظِ فَلا بُدَّ لَه مِن عَيبٍ.

----------------------------

كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء، رقم (١٣٦)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، رقم (٢٤٦).

كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، رقم (٢٤٦).

كتاب الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، رقم (٢٥٠).

كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ، رقم (١٥٣).

كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، رقم (٢٤٧).

كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، رقم (٢٤٧).

نونية ابن القيم (٣٣١).

كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم (٢٤٦).

كتاب المناقب، باب قول النبي ﷺ: «لو كنت متخذًا خليلًا»، رقم (٣٦٥٦)، ومسلم: كتاب المساجـد ومواضـع الصـلاة، باب النهـي عن بناء المساجد على القـبور، رقم (٥٣٢).

أخرجه الطبراني في الكبير: (٨ / ٢٤٩، رقم ٧٩٧٩).

كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر، رقم (٣١٦٨)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، رقم (١٧٣٥).

كتاب الطهارة، باب ما يقال عند الوضوء، رقم(٥٥)، والطبراني في الدعاء باب القـول عند الفـراغ من الوضـوء، رقـم (٣٩٢)، وفي المعجـم الأوسط (٥ / ١٤٠، رقـم ٤٨٩٥).

كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة، رقم (٣٢٤٤)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم (٢٨٢٤).

كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم(٢٤٦)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:12

إرسال تعليق

أحدث أقدم