باب دخول الخلاء والاستطابة
■ الحديث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
________________________________________
الخَلَاءُ مِنَ الخُلُوِّ، وَهُوَ المَكَانُ المُعَدُّ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُو بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِطَابَةُ فَمِنَ الطِّيبِ، يَعنِي تَنظِيفَ السَّبيلَينِ مِنَ الخَارجِ مِنهُمَا، وَهِيَ طَلَبُ التَّطَيُّبِ مِنَ الخَبَثِ الَّذِي أَصَابَهُ مِنْ أَجْلِ الْبَوْلِ أَوِ الْغَائِطِ، وَتَشْمَلُ الِاسْتِجْمَارَ بِالْأَحْجَارِ، وَالِاسْتِنْجَاءَ بِالمَاءِ.
وَقَدْ سَبَق أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالحَجَرِ أَو بِالمَاءِ فَإنْ كَانَ بِالماءِ فَالأَغلَبُ أَنْ يُسَمَّى استِنجَاءً، وَإنْ كَانَ بِالحَجَرِ فَالأَغلَبُ أَن يُسَمَّى اسْتِجْمَارًا.
وَاعْلَم أنَّ هذَا الدِّينَ الإِسلَامِيَّ كَامِلٌ مِن جَميعِ الوُجُوهِ فِي العِبَادَاتِ وَالأَخلَاقِ وَالمُعَامَلاتِ وَفِي كُلِّ الأَحوَالِ، وَأَنَّهُ شَامِلٌ لِجَميعِ مَا يَحتَاجُ النَّاسُ إِلَيهِ فِي أُمورِ دِينهِمْ وَدُنياهُم، فقَدْ علَّمَ النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه كُلَّ مَا يَحتَاجُونَ إليَهِ حَتَّى آدَابِ قَضاءِ الحَاجَةِ، وَآدَابِ الأَكلِ، وَآدابِ اللِّباسِ، وَآدابِ الجُلوسِ، وَآدَابِ اللِّقَاءِ، وَغَيرِ ذَلكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلى شُمُولِ هَذِه الشَّريعَةِ، وَلِهذَا قَالَ بَعضُ المشْرِكِينَ لِسَلمَانَ الفَارِسيِّ : عَلَّمكُمْ نَبِيُّكُم كُلَّ شَيْءٍ؟ قَالَ: «أَجَلْ».
الخُبُثُ -بِضَمِّ الخَاءِ وَالْبَاءِ-: وَهُوَ جَمْعُ خَبِيثٍ، وَالخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ، اسْتَعَاذَ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ.
مِنَ الآدَابِ التِي شَرَعهَا النَّبيُّ ﷺ لِأُمَّتِه عِندَ دُخولِ الخَلَاءِ آدَابٌ قَولِيةٌ وَآدَابٌ فِعلِيةٌ، أَمَّا الآدَابُ الفِعلِيَّةُ فَأَن يُقَدمَ الإِنسَانُ رِجلَه اليُسرَى، وَأمَّا الآدَابُ القَولِيةُ فَهِيَ أَنَّ النبيَّ كَانَ إذَا دَخَلَ الخَلَاءَ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ».
الخَلَاءُ هُوَ المكَانُ المُعدُّ لِقضَاءِ الحَاجَةِ، سَواءٌ كَانَ مَبنيًّا بِبنَاءٍ، أَوْ مَحُوطًا بِحائِطٍ، أَو أَي مَكَانٍ يختَارُهُ الإنسَانُ مِنَ البَرِّيةِ لِيقْضِي حَاجَتَه بِه، فَهذَا المَكَانُ الذِي اخْتَارَه مِنَ البَرِّيةِ لِيَقضِي حَاجتَه بهِ بِمَنزلَةِ الخَلاءِ المبْنِيِّ المُحَوَّطِ المُعدِّ لِذلِكَ، كَانَ إذَا دَخَلَ الخَلَاء قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ».
قَولهُ: «كَانَ إِذَا دَخَلَ»: اعْلَمْ أَنَّ (كَانَ) تَأتِي في الأَحَادِيثِ كَثِيرًا، وَالَّذِينَ يُؤَلِّفونَ عَلَى الحُرُوفِ الهِجَائِيةِ، وَيُرَتبُونَ الأَحَاديثَ عَلَيهَا يَذْكُرونَ فَصْلًا أَو بَابًا مُسْتَقِلًّا لِلأَحَاديثِ المُصَدَّرَةِ بـ(كَانَ)، وَقَد قَالَ الأُصُولِيُّونَ: «إنَّ (كَانَ) تَقْتَضِي المُدَاوَمَةَ غَالِبًا»، وَلَيسَ دَائِمًا.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا: أَنَّكَ تَرَى فِي بَعضِ الأَحَادِيثِ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِبـ﴿سَبِّحِ﴾ وَالمُنَافِقِينَ»، و«كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ بـ﴿سَبِّحِ﴾ وَالْغَاشِيَةِ»، فَإذَا قُلنَا: (كَانَ) عَلَى الدَّوَامِ دَائمًا صَارَ في الحَدِيثَينِ تَعَارُضٌ ظَاهِر، لَكِن إِذَا قُلنَا: إِنَّهَا غَالِبًا، فَإنَّ هَذَا مِمَّا خَرَجَ عَنش الغَالِبِ، وَهُنا (كَانَ) إذَا دَخَلَتْ نَحْمِلُهَا عَلى الغَالِبِ، أَو عَلَى الدَّائِمِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّه لَيسَ بِدَائمٍ.
قَولهُ: «إِذَا دَخَلَ»: أَيْ: أَرَادَ أَن يَدخُلَ، وَالعَرَبُ تُعَبِّر بِالفِعْلِ عَن إِرَادَتِه الجَازِمةِ القَرِيبَةِ مِنهُ.
انْتَبهْ لِأَمرَينِ: جَازِمَةٍ بِدُونِ تَردُّدٍ، قَريبَة مِنهُ.
مِثلَ قَولِنَا: إِذَا دَخَلْت المَسْجِدَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ نُعَبرَ عَن إِرَادَةِ دُخُولِ المَسجِدِ لِصَلَاةِ الظُّهرِ، لَكِنْ دَخَلت المَسجِدَ الآنَ؛ وَذَلِكَ لِتَبَاعُدِ مَا بَينَهُمَا.
كَذَلِكَ مَنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا لَا يُمكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالفِعلِ عَن إِرَادَتِهِ المتَرَدِدَةِ.
وَنَظِيرُ التَّعبِيرِ بِالفِعلِ عَنِ الإِرَادَةِ الجَازِمَةِ القَرِيبَةِ، قَولُه تَعَالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:٩٨]، أَي: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْرأَ.
قَولهُ: «قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ».
«اللَّهُمَّ» أَصْلُهَا يَا أَللَّهُ، لَكِنْ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَعُوِّضَ عَنْهَا المِيمُ وَأُخِّرَتْ، فَلِمَاذَا اخْتِيرَتِ المِيمُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلِمَاذَا أُخِّرَتْ عَنْ مَكَانِهَا؟
نَقُولُ: اخْتِيرَتِ المِيمُ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الجَمْعِ، فَكَأَنَّ الدَّاعِيَ جَمَعَ قَلْبَهُ إِلَى اللَّهِ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَمُنَادَاتِهِ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ المِيمَ تَخْرُجُ بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ بَعضِهِمَا إِلَى بَعض، وَأُخِّرَتْ عَنْ مَكَانِ الْعِوَضِ تَيَمُّنًا بِالْبُدَاءَةِ بِاسْمِ اللَّهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: «يَا اللَّهُمَّ» عُمُومًا، لَكِنْ أَحْيَانًا تُقَالُ شُذُوذًا، وَإِلَّا فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالمُعَوَّضِ، لَكِنَّهَا قَدْ تَأْتِي قَرِينَةً فِي النَّظْم:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَـمَّا *** أَقُولُ: يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
قَولهُ: «إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَـمَّا»: يَعْنِي وَقَعَ، أَقُولُ: «يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّ»، وَكَأَنَّ هَذَا الرَّاجِزَ، قَالَ: أَقُولُ: «يَا اللَّهُم يَا اللَّهُم» مِن شِدَّةِ مَا حَدَثَ عَلَيهِ، جَمَعَ بَينَ العِوَضِ وَالمعَوَّضِ؛ لِيَكُونَ المنَادَى مُنَادًى بِأَدَاتَينِ هُمَا: اليَاءُ وَالمِيمُ.
قَولهُ: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ»، فـ«أَعُوذُ» أَي: أَعتَصِمُ، وَأَلُوذُ، وَأَلْتَجِئُ، وَيُقَالُ: الفَرقُ أَنَّ الِاسْتِلَاذَةُ فِي طَلَبِ المَرغُوبِ، وَالِاسْتِعَاذَةَ في الفِرَارِ مِنَ المَرهُوبِ.
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ *** وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ *** وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
هَذَا مَا يَقُولُهُ الْقَائِلُ فِي مَدْحِ بَشَرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ إِلَّا لله .
فَعَلَى الإِنْسَانِ أَن يَعُوذَ بِالله أَي: يَعتَصِمَ بِهِ مِنَ «الخُبْثِ وَالخَبَائِثِ»، وَرُوِيَتِ «الخُبُثِ» بِالضَّمِّ أَيضًا، فَأَمَّا عَلَى إِسْكَانِ البَاءِ يَكُونُ المرَادُ: الشَّرَّ، وَالمرَادُ بـ«الخَبَائِثِ» النُّفوسُ الشِّريرَةُ؛ لِأَنَّهَا جَمعُ خَبِيثَةٍ، كَمُصِيبَةٍ جَمعُهَا مَصَائِبُ.
أَمَّا «الخُبُثِ» عَلَى رِوَايَةِ الضَّمِّ، فَجَمعُ جَمعِ خَبِيثٍ، وَالخَبَائِثُ جَمعُ خَبِيثَةٍ، وَفَسَّرُوا الخَبِيثَ بِذُكُورِ الشَّيَاطِينِ، وَالخَبَائِثُ إِنَاثُ الشَّيَاطِينِ.
فَكَأَنَّ النَّبيَّ ﷺ اسْتَعاذَ مِنْ ذُكرَانِ الشَّياطِينِ وَإنَاثِهِم، هَكَذَا ضَبطَها المؤَلِّفُ، وَإِنمَا يَستَعِيذُ مِن ذُكرَانِ الشَّياطِينِ وَإنَاثِهم عِندَ دُخولِ الخَلاءِ لأَنَّ الخَلاءَ مَحلُّ الشَّياطِينِ، فَالشَّياطِينُ تَألَفُ الخُبثَ لأنَّها خَبيثَةٌ كَما أَنَّ المَلائِكَةَ تَألَفُ الطَّيبَ لِأنَّها طَيبةٌ، فَإذَا كَانتِ المَراحِيضُ مَقَرَّ الشَّياطِينِ فَإنَّهُ يَنبَغِي لِلإنسَانِ إذَا أَرادَ أنْ يَدخُلَها أَنْ يَستَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الشَّياطِينِ.
وَضَبطَهُ بَعضُ الحُفَّاظِ بِسُكُونِ البَاءِ وَضمِّ الخَاءِ، أَي (مِنَ الخُبْثِ وَالخَبَائِثِ)، وقَالَ: المرَادُ بِالخُبْثِ الشَّرُّ وَالمرَادُ بِالخَبائِثِ الأَنفُسُ الشِّريرَةُ، فَكأَنَّهُ استَعَاذَ مِنَ الشَّرِّ وَأَهلِ الشَّرِّ، وَهذَا التَّفسِيرُ بِلَا شَكٍّ أَعَمُّ منَ الأَولِ، وَإذَا دَارَ الأَولُ بَينَ مَعنَيينِ أَحدِهِما دَاخِلٌ في الآخَرِ كَانَ الأَخذُ بِالأَعمِّ أَولى؛ لِأنَّ الأَعمَّ يَدخُلُ فِيه الأَخصُّ وَلَا عَكسَ، وَعَلى هَذَا فَيمْكِنُ أَنْ تَقُولَ عِندَ دُخولِ الخَلاءِ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبْثِ وَالخَبائِثِ» دُونَ أَنْ تَقُولَ: «أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ».
إِذَنْ إذَا أرَدتَ أَن تَدخُلَ خَلاءً فَقلْ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخبْثِ وَالخَبَائِثِ»، وَإذَا كُنتَ في غَيرِ بِناءٍ مُعدٍّ أَو مُحوَّطٍ، فَإذا أَردْتَ أَن تَجلِسَ فَقُلْ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبائِثِ».
وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى المعْنَيَيْنِ وَجَدنَا أَن المَعْنَى الأَوَّلَ أَعَمُّ.
بَعضُ النَّاسِ يُبَالِغُ مُبَالَغَةً عَظِيمَةً فِي الْوُضُوءِ، فَهُوَ كَمَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ يَغْسِلُ رَقَبَتَهُ، وَكُلَّ الرَّأْسِ، وَالرِّجْلَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، هَلْ نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ؟
فَالجَوَابُ: نَعَمْ، نُنكِرُ عَلَيهِمْ وَلَا بُدَّ، مَعَ أَنَّ الَّذِي غَسَلَ وَجْهَه حَتَّى غَسَلَ نصفَ الرَّأسِ وَالرَّقَبةِ، يُعتَبَر وُضُوؤُه صَحِيحًا لِكنَّه لَيسَ مُوَافِقًا لِلسُّنةِ؛ لِأنَّ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
وَالظَّاهِرُ أَننَا في هَذه الحَالِ نُضْطَرُ إِلَى مَذهَبِ أَبي حَنِيفَةَ حَيثُ قَالَ: «إِذَا بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ بَطَلَ فِي الزَّائِدِ»، وَهُنَا نَقُولُ: يَبطُلُ الزَّائِدُ، وَلَو قِيلَ: يُفْصَلُ بَينَ مَن زَادَ، هَل هُوَ يَرَى أنَّ الزِّيَادَةَ عِبَادَةٌ أَو يَرَاهَا احْتِيَاطًا لِلوُضُوءِ؟ فَإِنْ كَانَ الأَوَّل فَهِيَ مَردُودَةٌ؛ لِأنَّه تَعَبَّدَ لله بِمَا لَم يَشْرَعْه، وَإنْ كَانَ الثَّاني فَهُوَ لا يُريدُ زِيادَةَ التَّعبدِ، لَكِن عِندَه وَسْوَاسٌ وَيُريدُ أَنْ يَحتَاطَ فَيَكُونُ الوُضُوءُ صَحِيحًا، هَذَا التَّفصِيلُ فِيمَا أَرَى أَدَقُّ مِنَ القَولِ بِالصِّحَّةِ مُطلَقًا أَو بِالرَّدِ مُطلَقًا.
وَمَا مَعنَى قَولِ الفُقَهَاءِ: هَذَا الفِعلُ غَيرُ مَشرُوعٍ، كَالَّذِي يَختِمُ صَلَاتَه بـ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾؟
الجَوَابُ: إِذَا قَالُوا غَير مَشرُوعٍ أَي إِنَّهُ بِدعَةٌ، لَكِنْ إِذَا أَجَازَهُ الشَّرعُ لَم يَكُن بِدعَةً، فَالرَّجُلُ الَّذِي يَقرَأُ وَيَختِمُ بـ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، لَم يُنكِرْ عَلَيهِ الرَّسُولُ لَكِنَّه لَم يُشَرِّعْه لِلأُمَّةِ وَيَقُولُ: اخْتِمُوا بـ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، لَا بِقَولِهِ وَلَا بِفِعلِهِ.
وَهَلْ فِي الجَنَّة تُوضَعُ الحُلِيُّ في اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ كَمَا هُوَ الحَالُ فِي الدُّنيَا؟
الجَوَابُ: نُخْبرُكَ -إِن شَاءَ اللَّهُ هُنَاكَ- ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ [الزُّخرُف:٧١]، فَلَوْ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ التَّحَلِّي عَلَى الصَّدرِ مِنْ نَوعٍ، وَعَلَى الظَّهْرِ مِنْ نَوعٍ، وَعَلَى الكَتِفِ مِن نَوعٍ، لَـهُم كُلُّ شَيْءٍ يَشتَهُونَه فَيُعطَوْنَ إِياهُ، حَتَّى قَالَ بَعضُ العُلَماءِ: لَـوِ اشْتَهَى أَوْلَادًا لَـرُزِقَ أَوْلَادًا مِنَ الحُورِ، أَوْ مِنْ نِسَائِهِـمُ اللَّاتِي مَعَهُمْ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجعَلَنَا وَإيَّاكُم مِنهُم، وَأَلَّا يَحُـولَ بَينَنَا وَبَينَه بِمَعَاصِينَا.
وَهَل أَهلُ الدُّنْيا أَفضَلُ أَم أَهلُ الجَنَّة، وَمَا الدَّلِيلُ؟
الجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ في الجَنَّة أَجمَلُ، وَالدَّليلُ بِهَذَا المَعنَى، أَننَا نَعلَمُ أَنَّ الحُورَ وَالوِلدَانَ أَقَلُّ رُتبَةً مِنَ الَّذِينَ نُعِّمُوا؛ لِأنَّ هَذِه الحُورَ وَالوِلدَانَ عِبَارَةٌ عَن تَنعِيمٍ لِلمُنَعَّم، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَنعيمَ المُنَعَّمِ أَدْنَى مِنَ المنَعِّم، وَأَيضًا عَلَّلَ البَعضُ أَنَّ نِسَاءَ الدُّنيَا ابْتُلِينَ فِيهَا وَصَبَرْنَ، أَما اللَّوَاتي مِنَ الحُورِ فَلَم يَحْصُلْ لَـهُن شَيءٌ مِن ذَلكَ، أَنَا أَقُولُ هَذَا عَقْلًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ فَالحَمدُ لله الَّذِي وَفَّقَنِي إِلَى الصَّوَابِ، ثُمَّ لَو فُرِضَ أَنَّ النِّسَاءَ في الجَنَّةِ يَكُنَّ نِسَاءً عَلَى مَا هُنَّ عَلَيه الآنَ فَلَا أَحَدَ يَبْتغِيهَا، فَهِيَ سَتَكُونُ أَجمَلَ بِلَا شَكٍّ.
مِنْ فَوائِدِ هَذَا الحَديثِ:
• الفَائِدَةُ الأُولَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَشَرٌ مِنَ البَشرِ، لَا يَملِكُ لِنَفسِه نَفعًا وَلا ضَرًّا، وَهذَا هُوَ مَا أَمرَهُ اللَّهُ بهِ أَنْ يُعلِنَه عَلَى الملَإِ بِقَولِهِ: ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف:١٨٨]، وفي قوله: ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام:٥٠]، وَفي قَولِه: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الجن:٢١-٢٢]، وَبِمثلِ هَذهِ الآيَاتِ يَنقَطِعُ تعَلُّقُ المشْرِكِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ الذِينَ يَأتُونَ إِلى قَبرِه -صَلَواتُ اللَّهِ وَسَلَامُه عَلَيهِ- وَيَدعُونَ وَيَقُولُونَ يَا مُحمَّد يَا رَسُولَ اللَّهِ أنقِذنِي مِنْ كَذَا، يَا مُحَمَّد يَا رَسُولَ اللَّهِ اجلِبْ لِي كَذَا، زَوجنِي ارزُقنِي أَعطِنِي وَلدًا رُدَّ علَيَّ ضَالَّتِي اشفِ مَريضِي ومَا أشبَهَ ذَلكَ ممَّا يَتعلَّقُ بهِ المشْرِكُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، النَّبيُّ نَفسُه دعَا عَشِيرتَه وَصَارَ يَدعُوهُم بِأسْمائِهِم يَقولُ يَا فُلَانُ ابنَ فُلَانٍ لَا أُغنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا، حَتَّى قَالَ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهشَيْئًا»، قَالَ ذَلكَ وهُوَ في حَيَاتِه، فَكَيفَ بِهِ بَعدَ مَماتِه؟ أَيُمكِنُ أَن يُغنِيَ بَعدَ مَماتِه وَهُو لَا يُغنِي عَنْ أَحدٍ شَيئًا فِي حَياتِه؟
فَإِنَّ مِثلَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَيَقْصِدُونَه لِكَشفِ الكُرَبِ وَتَفرِيجِ الكُرُباتِ لَو أَنَّ النَّبيَّ ﷺ خَرجَ لَقَاتَلَهُم بِالسِّلاحِ حَتَّى يُؤمِنُوا فَإنْ لَم يُؤمِنُوا اسْتَباحَ دِمَاءَهُم وَأَموَالَـهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ نَحنُ الَّذِينَ نُعَظِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَنَحنُ الَّذِينَ نُحِبُّ رَسُولَ ﷺ، لَكِنَّ المَحَبَّةَ وَالتَّنظِيمَ لَـهُمَا مِيزَانٌ قِسطٌ عَدلٌ وَضَعهُ اللَّهُ في كِتابِهِ حَيثُ يَقولُ: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٣١]، لَمْ يَقُلْ: «إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَادعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ»، قَالَ: ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ شَريعَةَ النَّبيِّ ﷺ تُحَارِبُ كُلَّ شِركٍ كُلَّ الشِّركِ بِجَمِيعِ أَنوَاعِهِ حَتَّى إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، فَالزِّنَا وَشُربُ الخَمرِ وَقَتلُ النَّفسِ، وَأكلُ المَالِ، والرِّبَا كُلُّ المعَاصِي تَحتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، أمَّا الشِركُ فَلَنْ يُغفَرَ أَبدًا.
وَقَالَ المُحقِّقُ شَيخُ الإِسلَامِ ابْنُ تَيمِيَّةَ : «إِنَّ الشِّركَ لَا يَغفِرُهُ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ شِرْكًا أَصغَرَ لَا يُخْرِجُ مِنَ الِملَّةِ».
الفَائدَةُ الثَّانِيةُ: كَمالُ تَوحِيدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَيثُ لَم يَلْجَأْ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا إِلى اللَّهِ ، وَلَم يَلْتَجِئْ إلَى أَحدٍ سِوَاهُ، وَلَا شَكَّ أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ أَكْمَلُ النَّاسِ تَوحِيدًا وَعِبادةً للَّهِ وَأنَّهُ أَعبَدُ الخَلقِ للَّهِ وَأَخشَاهُم للَّهِ ، حتَّى إِنَّ قَومًا مِنَ
الصَّحابَةِ تَذاكَرُوا فِيما بَينَهُم يُريدُونَ أَن يَسلُكُوا أَفضَلَ الطُّرُقِ بِالأَعمَالِ الصَّالِحَاتِ فَذَهَبُوا إِلَى زَوجَاتِ الرَّسُولِ ﷺ وَقَالُوا: كَيفَ كَانَ عَمَلُ النَّبيِّ ﷺ؟ فقَالَتِ النِّساءُ: عَمَلُه كَذَا وَكَذَا فَكأنَّهُم تَقَالُّوا هَذَا العَملَ وَقالُوا هَذَا عَمَلٌ قَليلٌ، وَلكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَد غُفرَ لَه مَا تَقدمَ مِن ذَنبهِ وَمَا تَأخرَ أَمَّا نَحنُ فَإنَّنَا لَسنَا كَرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلكِنِ انظُرُوا لَنَا عَمَلًا قَالَ بَعضُهُم: أَنَا أَقُومُ اللَّيلَ وَلَا أَنامُ، وَقَالَ الثَّانِي: أَنَا أَصُومُ النَّهارَ وَلَا أُفطِرُ، وَقالَ الثَّالِثُ: أَنَا لَا أتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَبلَغَ ذَلكَ النَّبيَّ ﷺ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا، أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
فَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَكملُ الخَلقِ في التَّوحِيدِ وَالعِبادَةِ لَا أَحَدَ مِنَ الخَلقِ يُماثِلُهُ، وَكيفَ وَهُوَ الذِي يَقُومُ للَّهِ تَعالَى حَتَّى تَتَورَّمَ قدَمَاهُ بَلْ حَتَّى تَتفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَه في ذَلِكَ؟ فَيقُولُ: «أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا».
الْفَائدَةُ الثَّالِثَةُ: إِثبَاتُ الشَّياطِينِ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْكِتابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجمَاعِ المُسلِمِينَ، وَالوَاقِعُ يَشهَدُ بِذَلِكَ، فَالشَّياطِينُ مَوجُودُونَ وَلَـهُمْ تَأثِيرٌ عَلَى الإِنْسَانِ وَمَا أَشَدَّ تَأثِيرَهُمْ عَلَى بَنِي آدَمَ يُريدُونَ أَنْ يُفسِدُوا عِبادَةَ الآدَمِيِّينَ؛ لِأنَّ آدمَ عَدُوٌّ لإِبلِيسَ قَالَ اللَّهُ تعَالَى: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [البقرة:٣٦]، فَهُو عَدُوٌّ لآدَمَ، وَعَدُوٌّ لبَنِي آدَمَ ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر:٦]، فالشَّيطَانُ يُلقِي الوَسَاوِسَ السَّيئَةَ وَالْإِرَادَاتِ السَّيئَةَ في قَلبِ الإِنسَانِ حَتَّى إِنَّهُ يَصِلُ بِالإنسَانِ إلَى أَنْ يُشَكِّكَهُ في وُجُودِ اللَّهِ، وَيُشَكِّكُهُ في أَسْماءِ اللَّهِ وَصِفَاتِه،
وَيُشكِّكُه في اليَومِ الآخِرِ وَالبَعثِ بَعدَ المَوتِ وَالجَزَاءِ عَلى الأَعْمَالِ، ويُشَكِّكُهُ في العِبَادَاتِ وَفَوائِدِهَا وَثَمرَاتِهَا، وَيَقُولُ: مَا شَأْنُنَا وَهَذِه الأَعْمَالَ المُرْهَقَةَ التِي لَا فَائِدَةَ مِنهَا.
وَيَصلُ إِلى دَرَجَةِ أَن يُفَرِّقَ بَينَ الإِنسَانِ وَزَوجَتِه فَيُلقِي في قَلبِهِ وَسَاوِسَ في الطَّلَاقِ وَغَيرِ ذَلكَ، حَتَّى إِنَّ الرَّجلَ لَيتخَيلُ أَنهُ إذَا رَأى زَميلَه أنه يخونُه مع زوْجَتِه، فَيطَلَّق زَوجَتَه مِن شِدةِ مَا يُدخِلُ الوَسَاوِسَ عَلى قَلبِ الإِنسَانِ، هَذِهِ مِنَ النَّاحِيةِ الفِكْرِيَّةِ وَالنَّاحِيةِ الَمعْنَويَّةِ، وَيُمَسُّ الإِنسَانُ أَيضًا بِالصَّرعِ وَالجُنونِ، فَإنَّ الشَّيطَانَ قَدْ يَصرَعُ الإِنسَانَ حَتَّى يَصِلَ إِلى دَرجَةِ الجُنُونِ وَالإِغمَاءِ وَالقَذفِ بِذبَب الرِّيقِ وَغَيرِ ذَلكَ مِما هُوَ مَعرُوفٌ مِنَ الصَّرَعِ الَّذِي يُصيبُ بَنِي آدَمَ.
وَلَقدْ أَخطَأَ خَطأً عَظيمًا وَشَطحَ شَطْحًا بَعيدًا مَنْ أَنكَرَ أنْ يَصرَعَ الجِنيُّ الإِنسَ؛ لأَنَّ هذَا ثَابِتٌ بِظَاهِرِ القُرآنِ وثَابِتٌ بِصَريحِ السُّنةِ، وَكَذلِكَ إِجمَاعِ أهْلِ السُّنةِ وَالجَماعَةِ وَلَم يُخالِفْ في ذَلكَ إِلا أَهلُ البِدَعِ مِنَ المُعتَزِلَةِ وَغَيرِهِمُ الذِينَ يُنكِرونَ مِنَ الأَشيَاءِ مَا وَرَاءَ المادَّةِ، وَلا يَرتَضُونَ إِلَّا الأَشيَاءَ المَاديَّةَ المَحضَةَ أَو مَا يَزعُمُونَ أَنَّ عُقُولَـهم تَشهَدُ بِهِ.
وَالمُهِمُّ أَنَّ الشَّياطِينَ لَـهمْ تَأثِيرٌ حِسيٌّ وَعَقلِيٌّ وَفِكرِيٌّ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَلهَذَا كَانَ الرَّسُولُ يَستَعِيذُ بِاللَّهِ مِنهُمْ عِندَ دُخولِ الخَلَاءِ.
الفَائدَةُ الرَّابِعةُ: الإِشَارَةُ إِلى أَنَّ الخَلَاءَ مَسْكَنُ الشَّيَاطِينِ وَمَأْوَاهُمْ؛ لِأنَّ الخَلاءَ أمَاكِنُ خَبيثةٌ نَجسَةٌ وَالشيَاطِينُ كَذلِكَ، خُبثَاءُ أَنجاسٌ يَأمُرونَ بِالخُبثِ بِالفَحشَاءِ بِالمنْكَرِ بِالكُفرِ بِالشِّركِ بِكُلِّ نَجِسٍ خَبيثٍ مِنَ العَملِ وهَذَا مِن حِكمَةِ اللَّهِ، أَنَّ النفُوسَ
الزبب: هو الزبد الذي يخرج على الشدق عند الكلام.
انظر مختار الصحاح زبب.
الخَبيثَةَ تَميلُ إلَى الأَماكِنِ الخَبيثَةِ، وَأَنَّ النُّفوسَ الطَّيبةَ تَميلُ إِلى الأَماكِنِ الطَّيبةِ، وَلهذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ إِمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ»، فَقَلبُه مُعلَّقٌ بِالمسَاجِدِ لِأنَّها بُيوتُ اللَّهِ، فَيتعَلَّقُ قَلبُه بِالأَماكِنِ الطَّيِّبةِ، وَكُلَّما خَرجَ مِنَ المسجِدِ فإذَا بِقَلبِه مُتَعلِّقٌ بِه يَنتَظِرُ الصَّلاةَ الأُخرَى، وَهكَذَا دَائمًا وأَبدًا قَلبُه مُعلَّقٌ بِالمسَاجدِ لِأنهُ طَيبٌ فَيتعَلقُ بِالأَشيَاءِ الطَّيبَةِ.
وَقَد قَالَ تَعالَى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور:٢٦]؛ وَلهذَا كَانَ الَّذِي يَرمِي نِساءَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ بِالخُبثِ بِالزِّنَا كَانَ كَافرًا مُرتَدًّا يُقتَلُ في كُل حَالٍ سَواءٌ كَانَ ذلِكَ بِالنسبَةِ إِلى عَائشَةَ التِي أَظهَرَ اللَّهُ بَراءَتَها في كِتَابِه أَو غَيرِهَا منْ أُمهَاتِ المؤمِنينَ، وَذلِكَ لِأنَّهمْ لَو صَحَّ أَنْ تَكونَ نِساءُ الرَّسولِ بهذه المَنزِلَةِ الخَبيثَةِ لَكَانَ هذَا قَدحًا بِرسُولِ الله ﷺ أَن يَكُونَ زَوجَ البَغايَا وَالمُومِساتِ، فَكلُّ مَن رَمى زَوجَاتِ النَّبيِّ ﷺ بهذَا الخُلقِ الرَّديءِ فَإنهُ قَد قَدحَ بِرسُولِ اللَّهِ .
وَلهذَا كَانَ الصَّحيحُ مِنْ أَقوَالِ أَهلِ العِلمِ كَما ذَكَرهُ شَيخُ الإسْلَامِ ابنُ تَيمِيةَ في كِتابِ (الصَّارمِ المَسلُولِ عَلى شَاتِمِ الرسُولِ) أَنَّ مَن قَذفَ وَاحدَةً مِن أُمهَاتِ المؤمِنينَ فَهوُ كَافرٌ مُرتدٌّ يُستَتابُ، فَإنْ تَابَ سَقطَ حَقُّ اللَّهِ فيهِ وَلكِنْ يُقتَلُ لحَقِّ النَّبيِّ ﷺ حِمايَةً لِشَرفِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ وَمَنزلَتِهِ.
الفَائدَةُ الخَامِسةُ: عُمومُ مُلكِ اللَّهِ وَسلطَانِه، وَأنهُ لَا أَحدَ يَستطَيعُ
أَن يُؤثِّرَ بأَحدٍ وَلوْ كَانَ هَذا الشَّيءُ مِن أَخفَى مَا يكُونُ وَأقوَى مَا يَكُونُ، ولهَذَا لـمَّا استَكبَرتْ عَادٌ في الأَرضِ وَقَالُوا مَن أَشَد مِنَّا قُوةً قَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ [فصلت:١٥-١٦]، قَالوا: مَنْ أَشدُّ مِنا قُوةً، وَأهلَكَهمُ اللَّهُ بِأَلطَفِ الأَشيَاءِ، الرَّيحِ.
فَهذِه الشَّياطِينُ الخَفيَّةُ الشَّدِيدَةُ القَويَّةُ جَعلَ اللَّهُ لـهَا سُلطَةً لَكِنَّ قُوةَ اللَّهِ فَوقَ سُلطَتِهَا، وَلهَذَا استَعاذَ النَّبيُّ ﷺ بِاللَّهِ مِنَ الخبُثِ وَالخَبائِثِ.
----------------------------
أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب الاستطابة، رقم (٢٦٢).
أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، رقم (١٤٢)، ومسلم: كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، رقم (٣٧٥).
أخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (١٢ / ٢٨، رقم ١٢٣٧٤).
أخرجه أحمد (٤ / ٢٧٧، رقم ١٨٦٣٣).
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم(١٧١٨).
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (٥/ ١٨٤).
أخرجه البخاري: كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولدان في الأقارب، رقم(٢٧٥٣)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾، رقم (٢٠٥).
المستدرك على مجموع الفتاوى (٣ / ١٩٣).
أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم (٥٠٦٣)، ومسلم: كتاب النكاح، باب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم (١٤٠١).
أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب قيام النبي ﷺ الليل حتى ترم قدماه، رقم(١١٣٠)، ومسلم: كتاب صفة القيامة، باب إكثار الاعمال والاجتهاد في العبادة، رقم(٢٨١٩).
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم(٦٦٠)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، رقم (١٠٣١).
الصارم المسلول (ص:٤٢٠، ٥٦٧)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب دخول الخلاء والاستطابة /حديث رقم:13