-->

شرح حديث "إذا توضأ أحدكم": أهمية غسل اليدين قبل ادخالهما الإناء

أهمية غسل اليدين قبل ادخالهما الإناء

الحديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنِ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلاثاً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟».
وفي لفظٍ لمسلمٍ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ».
وفي لفظ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ».
■ حكم الحديث: متفق عليه

■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين

قَوله: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ»، أَي: إذَا أَرادَ الوُضوءَ، أَو إذا شَرعَ في الوُضوءِ، ولَيسَ عَلى صِيغةِ الماضِي (إذَا فرَغَ منَ الوُضوءِ)، وَقد بيَّنَتِ السُّنةُ هَذا في فِعلهِ ﷺ وَهنَا نقُول بجَوازِ التَّأويلِ؛ لِأنَّه بدَليلٍ.

وإذَا أنكَر علَينا أَهلُ التَّعْطيلِ في صِفاتِ الله تَعالَى أَننا نُؤوِّل، وأَتَوا بأَمثِلَةٍ كَهذَا، نقُول: إِنَّنا لَا نُنكرُ التَّأويلَ عُمومًا، بَل نُنكر التَّأويلَ الَّذي ليسَ عَليهِ دَليلٌ، فَنحنُ نُؤوِّل بدَليلٍ، أمَّا مَا كَانَ بغَير دَليلٍ، فَنأخُذُه علَى ظاهِرِه بغَير تَأويلٍ.

الوُضُوءُ هُو غَسلُ الأعْضَاءِ، أَو هُو اسْتِعمَالُ الماءِ في الأْعضَاءِ الأرْبَعةِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالأعْضَاءُ الأرْبَعةُ هيَ: الوَجهُ، وَاليَدانِ، وَالرَّأسُ، وَالرِّجلانِ، وَذُكِرَتْ هَذه الْأَعضَاءُ في قَولِهِ تَعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:٦].

وَأَمَّا مَا اشْتهرَ عِندَ الْعَامةِ مِن أنَّ الوُضوءَ غَسلُ الْفَرجِ فَلَيسَ بِصحِيحٍ، فَغَسلُ الفَرْجِ لا يُسمَّى وُضُوءًا وَإِنَّما يُسَمى اسْتنجَاءً، وَيَنبغِي لِطَلبةِ العِلمِ أَن يُبَينُوا للنَّاسِ أنَّ الوضُوءَ اسْتِعمالُ الماءِ في الْأعضَاءِ الْأَربعَةِ، وَأنَّ غَسلَ الْفَرجِ يُسمَّى استِنجَاءً؛ لِأَنَّه لَا يَنبَغِي أَن يَعتَادَ المسلِمُونَ التعبِيرَ عنِ الشَّيءِ بِغيرِ اسمِهِ الشَّرعِيِّ، وَلهذَا لما كَانَ الأَعْرَابُ يُسمُّونَ صَلاةَ العِشَاءِ بِالعَتَمةِ؛ لِأنَّها تعتِم في الإبِلِ، يَقُولُ: «لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى صَلَاتِكُمْ فَتُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ، وَلَكِنْ سَمُّوهَا بِمَا سَمَّاهَا اللَّ‍هُ بِهِ وَهِيَ الْعِشَاءَ».

وَهَذَا دَليلٌ عَلى أنَّ المسلِمِينَ يَنبَغِي أَنْ يُعَبِّروا عَنِ المعَاني الشَّرعِيَّةِ بِألفَاظِها الشَّرعِيةِ، فَالعَامِّيُّ إِذَا سَمَّى الِاسْتِنجاءَ وُضُوءًا رُبَّما يَأتي يَسْتَفتِي، وَيقُولُ: أَنا صَلَّيتُ وَلم أَتَوضَّأْ، أَو يَقولُ: هَلْ يَجبُ عليَّ أَن أَتَوضأَ لِلصَّلَاةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلكَ مِنَ الْأَلفَاظِ الَّتِي تُوهِم المفْتِيَ خِلَافَ مَا يُريدُه المسْتَفتِي.

وقَولُه تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إِذَا صَدَّرَ اللَّ‍هُ الخِطَابَ بِالنِّداءِ دَلَّ ذَلكَ عَلى أَهَميَّةِ الْخِطَابِ، لِأنَّ الندَاءَ يَستَلزِمُ انْتِباهَ المنَادَى، وَأَنَّه يَجبُ الِاعْتِناءُ بهِ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّ‍هَ تَعالَى نَادَى مَنْ يُخاطِبُه بِوَصفِ الْإِيمانِ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وَلِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى المُكَلَّفِينَ مُصَدَّرًا بِوَصفِ الْإِيمانِ فَوَائدُ:

الفَائدَةُ الأولَى: الْإغْرَاءُ وَالحَثُّ عَلَى قَبُولِ الخِطابِ، إِنْ كَانَ خَبرًا فَبالتَّصدِيقِ، وَإنْ كَانَ حُكمًا فَبِالِامْتثالِ.

الْفَائدةُ الثَّانيةُ: أَنَّ قَبُولَ مَا خُوطِبَ بِه الْإنسَانُ مِنْ مُقتَضَياتِ الْإيمانِ، كَقَولِكَ مَثَلًا: يَا رَجُلُ افْعَلْ كَذا، أَي أَنَّ مُقتَضى الرُّجُولَة أَن تَفْعلَ.

الْفائِدةُ الثَّالِثةُ: أَنَّ مُخالَفَةَ ذَلكَ وَعَدَمَ قَبولِهِ مُخالفٌ لِلإيمَانِ؛ لِأنَّهُ لَو كَانَ مُؤمِنًا لَقَبله؛ إِمَّا لِكَمالِه وَإِما لِأصلِهِ حَسْبَ مَا تَقتَضِيه الأدِلَّةُ الشَّرعيةُ.

قَولُه تَعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ أَيَّ صَلَاة تَكُونُ فَرضًا أَو نَفْلًا، وَالصَّلاةُ ذَاتُ الرُّكوعِ وَالسُّجودِ، أوِ الصَّلاةُ الَّتِى لَيسَ لَـها رُكوعٌ وَسجودٌ كَصلَاةِ الجَنَازَةِ، لا بُدَّ منَ الطَّهارَةِ.

قَولُه تَعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الوَجهُ مَا يُواجِهُ بهِ الإنْسَانُ غَيرَه، وَحَدُّهُ مِن مُنحَنَى الجَبهَةِ إلى أسْفلِ اللِّحيَةِ طُولًا، وَمِنَ الأُذنِ إِلى الأُذنِ عَرضًا، وَيَدخُلُ في الوَجهِ الفَمُ وَالأَنفُ، وَلـهذَا كَانَتِ المضْمَضةُ وَالاسْتِنشَاقُ مِن فُروضِ الوُضُوءِ،لِأنَّ الأَنْفَ مَحَلُّهُ الْوَجهُ، وَالْفَمَ مَحلُّه الوجْهُ، فَإذَا وَجبَ الْوَجهُ دَخَلَ فِيه المَضمَضَةُ وَالاسْتِنشاقُ كَما سَيأتِي في الحَدِيثِ.

قَولُه تَعالَى: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ يَعْنِي وَاغْسِلوا أَيدِيَكم إِلى المرَافِقِ، وَالمِرْفَقُ هُوَ المِفصَلُ بَينَ الْعَضُدِ وَالذِّراعِ، و﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ مُنْتَهى الْغَايَةِ، وَمُبْتدَؤُهَا مِن رُؤوسِ الأصَابعِ؛ لِأنَّ الكَفَّ منَ اليَدِ بِلَا شَكٍّ، قَالَ اللَّ‍هُ تَعَالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة:٣٨]، وَالمرَادُ كَفُّ اليَدِ اليُمْنَى، إِذَنِ ابْتدَاءُ الغَسلِ مِنْ أَطرَافِ الأَصَابِـعِ إلَى المِرْفَقِ.

وَقَولُه تَعالَى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ وَلَم يَقلِ: امْسَحوا رُؤُوسَكُم لِفائِدَتينِ:

الفَائِدةُ الأُولَى: التَّعمِيمُ؛ لِأنَّهُ قَالَ: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ وَلَم يَقُلْ بِبَعضِ رُؤوسِكُم.

الفَائِدةُ الثَّانِيةُ: الْإِلْصَاقُ، أَي أَنَّكَ تُلصِقُ يَدَكَ بِرأسِكَ لِتَمسحَ.

وَالرَّأْسُ أَعلَى مَا في الإِنْسَانِ، وَلِهذَا سُمِّيَ رَأْسًا مِنَ التَّرَؤُسِ، وَهُوَ الْعُلُوُّ وَيَدخُلُ فيهِ الأُذنَانِ، فَالأُذُنَان مِنَ الرَّأسِ، وَلِهذَا يَجِبُ مَسْحُهُما.

قَولُه تَعالَى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ هُنَا إِشكَالٌ في إِعرَابِ هَذهِ الآيَةِ، قَالَ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ مَعَ أَنَّ قَبْلَهَا مَجْرورٌ ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ لِأنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلَى وُجُوهٍ، يَعْنِي وَاغْسِلوا أَرْجُلَكمْ إِلى الْكَعْبينِ، وَفِيهَا قِرَاءَةُ: (وأرجُلِكم) قِرَاءَةٌ سَبعِيَّة، فَيَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْرأَ بِها، بَلْ يَنبغِي لِطالبِ العِلمِ الَّذِي يَعرِفُ القِرَاءَاتِ أَن يَقرأَ بِها أَحْيَانًا لَكِن لَيْسَ أَمَامَ العَامَّةِ، يَعْنِي يَقْرَأُ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ حِفظًا لِلقِراءَاتِ وَاتِّباعًا للسُّنةِ، لِأنَّ هَذهِ القِراءَاتِ كُلَّهَا جَاءتْ عَنْ رَسُولِ اللَّ‍هِ ﷺ، لَكِنْ لَا يَقْرَأُ أَمَامَ العَامَّةِ بما يُخَالِفُ المصَاحِفَ التِي بِأَيدِيهم؛ لِأنَّه لَو قَرأَ بِقرَاءةٍ تُخَالِفُ المَصَاحِفَ التِي بِأَيدِيهمْ أَنكَرُوا ذَلكَ، وَحَصلَ فِيه تَشْوِيشٌ عَلَيهِم، وَزَالَ احْتِرامُ المصْحَفِ مِنْ قُلوبهِم؛ لِأَنَّ العَامَّةَ إِذَا سَمِعُوا بِالعِلْمِ لَا يُدرِكُونَه قَالُوا: هَذَا دِينٌ جَدِيدٌ، فَلَوْ أَننَا قَرأْنَا لَـهمْبِالقِراءَاتِ الأُخْرَى قَالُوا: أَتَوْا بِقُرآنٍ جَديدٍ، وَلهذَا لَا يَنبَغِي لِطَالبِ العِلْمِ أَنْ يَقْرأَ بِقِراءَةٍ خَارِجَةٍ عَنِ المُصحَفِ الَّذِي بِأَيدِي النَّاسِ، وَرُبَّما يَظُنُّ العَاميُّ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّلاعُبِ في المَصَاحِفِ أَوْ بِكَلامِ اللَّ‍هِ .

فَعَلى قِرَاءَةِ (أَرْجُلَكُمْ) تَدُلُّ الآيَةُ الكَريمَةُ عَلى وُجُوبِ غَسلِ الرِّجلِ، لِأنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى ﴿وُجُوهَكُمْ﴾، لَكِنْ عَلَى قِرَاءةِ الجَرِّ تُخَرَّجُ عَلى أَنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى الرُّؤوسِ، أَيِ: وَامْسَحُوا بِأَرجُلِكُمْ.

فَإِذَا قَالَ قَائلٌ: إِذا كَانتْ مَعْطوفَةً عَلى رُءُوسٍ فَإنَّه يَقتَضِي جَوَازَ مَسحِ الرِّجلِ بَدَلًا عَنِ الغَسلِ.

فَالجَوَابُ: نَعَمْ، هُوَ يَقتَضِي جَوازَ مَسحِ الرِّجلِ بَدلًا عَنِ الغَسلِ، لَكِنْ عَلى الوَجهِ الذِي جَاءَتْ بِه السُّنةُ حَيثُ كَانَ الرَّسُولُ  يَغْسِلُ رِجلَيهِ إِذَا كَانَتَا مَكْشُوفَتَينِ، وَكَانَ يَمْسَحُ رِجلَيهِ إِذَا كَانتَا مَستُورَتينِ بِالجَوَاربِ أَو بِالخُفَّينِ، وَهذَا يَكونُ في الآيَةِ إشَارَةً إلى المَسْحِ عَلى الخُفَّينِ.

وَهَذَا المَعْنَى ذَكَرهُ شَيخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيميَّةَ  وَغَيرُهُ مِن أَهلِ العِلمِ؛ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّ الرِّجلَ قَد تُمسَحُ، فَالرِّجلُ إِن كَانَتْ مَكشُوفَةً فَفَرضُهَا الغَسْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْتُورةً ففَرضُهَا المَسْحُ.

قَولهُ: «فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً»: هوَ كنَايةٌ عنِ المضْمَضَةِ، وَكَذلِك يَعني أَنْ يَضعَ في أَنْفِه مَاءً، وَفي لَفظٍ آخَرَ يَقولُ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ»، وَالاستِنْشاقُ هَو أَنْ يُحاولَ الإِنْسانُ إِدخالَ الماء مِن أَنفِهِ، وقولُه: «ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ» أيْ: يَنثرُ هَذا المَاءَ، وَهذَا مَعروفٌ لَا حاجَةَ لِمزيدِ شَرْحٍ.

قَولهُ: «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ»: أَي: أَزالَ الخَارجَ مِنَ السَّبِيلَيْن بالجِمَار، وَهيَ الحَصَى الصِّغارُ، وَحجمُهَا يَكونُ كالَّتي يُرمَى بِها الجمَراتُ في الحجِّ، لكِنْ حصًى صِغارٌ بالنِّسبةِ للأَحْجَار الكَبِيرةِ.

وَالِاسْتِجمَارُ هُوَ إزَالَةُ أَثَرِ الخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْن بِالحَجَرِ أو مَا يَقومُ مَقامَه البَولُ أوِ الغَائِطُ.

قَولهُ: «فَلْيُوتِرْ»، أي: فَليجعَلهَا وِتْرًا، وَمَعْنى الوِتْر هُو كُلُّ مَا لا يَنقسِمُ عَلَى اثنَينِ، وكُلُّ شَيْءٍ يَنقَسِم علَى اثْنَينِ فَهوَ شَفعٌ.

شروط الاستنجاء:

• الشَّرطُ الأَوَّلُ: أنْ تَكونَ وِترًا، لَكِن لَا يَكفِي في الوِترِيَّةِ أنْ تَكُونَ مَسحَةً واحِدةً كَما يَبْدُو مِن ظَاهرِ الحَدِيثِ، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهرَ مَدفُوعٌ بِالحَديثِ الَّذِي رَواهُ مُسلمٌ عَن سَلمانَ الفَارِسِيِّ  أَنهُ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»، وَعَلَى هَذا فَإنه لَا بُدَّ مِن ثَلَاثٍ، فإنْ أَنْقى بِثلاثٍ اقْتصرَ عَليهَا، وَإِن لَم يُنقِ أنْقَى بِالرَّابعَةِ يَزيدُ الخَامِسةَ، وَإنْ أَنْقَى بِالسَّادسَةِ زادَ السَّابعَةَ، لِقَولِه : «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ»، أَيْ فَلْيَجْعَلِ اسْتِجْمَارَهُ وِترًا.

الشَّرْطُ الثَّاني: أَنْ يَكونَ طَاهِرًا، فَإنْ كَانَ نَجِسًا لَم يُجزِئْ الِاسْتِجمارُ بهِ؛ لِأنَّ النَّجِسَ لا يَزِيدُ النَّجاسَةَ إلا نَجَاسَةً، فَالنَّجِسُ كَيفَ يَطْهُرُ وَهُو نَجِسٌ، بَلْ هُوَ نَفْسُه يَحتاجُ إِلى تَطهِير، مِثلَ أَنْ يَسْتَنجِيَ الإِنسانُ بِرَوثَةِ حِمارٍ، فَلَوِ اسْتَنْجَى برَِوثَةِ حِمارٍ وَأَزَالَتِ الخَارِجَ لَم يُجْزِئ الاسْتِجَمارُ لِأنَّه اسْتَخدَمَ نَجِسًا؛ وَلِهذَا لـما أَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَبدَ اللَّ‍هِ بنَ مَسعُودٍ أَن يَأْتيَ إلَيهِ بِأحْجَارٍ يَستَجْمِرُ بِها، أَتَى إِليْهِ بِحَجَرينِ وَرَوْثَةٍ،

فَأخذَ الحَجَرينِ وَألقَى الرَّوثةَ وَقالَ: «إِنَّهَا رِجْسٌ» أَي أَنهَا نَجِسَةٌ.

• الشَّرطُ الثَّالثُ: أَن يَكُونَ غَيرَ مُحتَرمٍ، فَإنْ كَانَ مُحترَمًا فَإنَّ الاسْتِجمارَ بِهِ لا يُجزِئُ وَلَـو أَنْقَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاحتِرامُ لِلشَّيءِ لِكونِه يَشتَملُ عَلى شَيءٍ مِنْ عُلومِ الدِّينِ أوْ لِكونِهِ ممَّا لَا يَنبغِي أنْ يُستَعملَ في الاسْتِجمارِ، فَلَوِ اسْتنْجَى الإِنْسَانُ بِطعَامٍ فَإِنَّه لَا يُجزِئُ، مَعَ أنَّهُ آثِمٌ، وَلَوِ اسْتَنجَى بِكُتبِ عِلمٍ شَرعِيٍّ، لَا يُجزِئُ حَتَّى وَإِنْ أَنْقَى؛ لِأنَّه مُحتَرَمٌ، وَلَوِ اسْتَنْجَى بِعَلَفٍ يَابِسٍ فَإنَّهُ لَا يُجْزِئ؛ لِأنَّهُ مُحتَرمٌ.

وَالدَّلِيلُ هُوَ أَنَّ «الرَّسُولَ ﷺ نَهى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ»، لِأَنَّ الْعَظْمَ زَادُ الجِنِّ.

وَالِجنُّ هُم أُولَئِكَ العَالَم الغَيْبِيُّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّ‍هُ تَعالَى بِأَوصَافٍ مُتَعدِّدةٍ، لـمَّا وَفَدوا عَلى النَّبيِّ ﷺ وَأَسلَمُوا أَعطَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ ضِيافَةً، فَقالَ لَـهمْ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّ‍هِ عَلَيْهِ تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَـحْمًا»، فَإِذَا أَكَلْنَا اللَّحْمَ أَكَلْنَا اللَّحمَ كُلَّه وَبَقِيَ العِظَامُ، إذَا رَمينَاهَا عَلى الأرْضِ فَإنَّ الجِنَّ يَجِدُونَها مَكْسُوَّةً لحمًا أَوفرَ مَا يَكونُ، وَقالَ: «كُلُّ بَعْرَةٍ فَهِيَ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ»، فَالبَعراتُ التِي تَخرُجُ مِن بَهيمَةِ الأَنعَامِ تَكونُ عَلفًا لِدَوابِّ الجِنِّ.

وَلِهذَا نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ الِاسْتنجَاءِ بِالعَظمِ وَالرَّوْثِ، إِذَا كَانَ طَعامُ الجِنِّ وَطَعَامُ دَوابِّهِمْ مُحتَرمًا لَا يَجوزُ الاسْتنجَاءُ بِه، فَطعَامُ الإِنسِ وَطَعامُ دَوابِّهمْ مِن بَابِأ

أوْلى، لأنَّ جِنسَ البَشرِ أَفضَلُ مِن جِنسِ الجِنِّ، بِلا شَكٍّ، فإِنَّ البَشرَ خُلِقُوا مِنَ الطِّينِ، والجنَّ خُلقُوا مِنَ النَّارِ، وَأبُو الجنِّ إبلِيسُ أُمِرَ أنْ يَسجدَ لآدَمَ وَلكنَّه اسْتَكبَرَ، وَمعْلُومٌ أنَّ المسْجُودَ لَه أفْضَلُ مِنَ السَّاجدِ، فَلا يَخْتَلفُ أهلُ العِلمِ أنَّ جِنسَ البَشرِ أَفضَلُ مِن جِنسِ الجِنِّ، لَكِنَّ البَشرَ وَالجنَّ في كُلٍّ مِنهُما خُبثَاءُ، قَالَ الجِنُّ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الجن:١١]، وَقالُوا: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾ [الجن:١٤]، فَحَتَّى الجِنُّ يَعرِفُونَ أنَّ الإِيمانَ يِزيدُ وَيَنقُصُ، مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمنَّا دُونَ ذَلكَ.

الشَّرْطُ الرَّابعُ: أنْ يَكُونَ ثَلاثَ مَسحَاتٍ فَأكثَرَ، فَإنْ أَنْقَتْ وَاحِدَةٌ فَزِد ثِنتَينِ، وَإِن أَنْقَى بِثِنتَينِ فَزِد وَاحِدَةً، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَلاثًا فَأكثَرَ، لِقَولِ سَلمانَ : نَهانَا رَسُولُ اللَّ‍هِ ﷺ أَنْ نَستَنجِيَ بِأقلَّ مِن ثَلاثةِ أَحجارٍ.

• الشَّرطُ الخَامسُ: أَلا يَجِفَّ المكَانُ قَبْلَ الِاسْتِجْمَارِ، فَإِنْ جَفَّ لَمْ يُجْزِئْ إِلَّا الماءُ، وَيُمكِنُ أَنْ يَجفَّ قَبلَ الاستِجمَارِ، لَا يَكُونُ عِندَهُ حَجرٌ فَيَذْهَبُ يَطْلُبُ حَجرًا في هَذِهِ المدَّة يَيبَسُ المَكَانُ، نَقولُ: هُنَا لَا يَنفَعُ الِاسْتِجمَارُ، بَلِ المَاءُ هُوَ النَّافِعُ.

وَهَلْ يُشتَرطُ أنْ يَكونَ مُباحًا أَو لَا؟ يَعنِي لَو أَنَّه غَصبَ حَجرًا مِن إِنسَانٍ وَأخَذهُ قَهرًا وَاسْتجْمَرَ بهِ هَلْ يُجزِئُ أَو لَا يُجزئُ؟

نَقولُ: يُجْزِئُ فَلَا يُشتَرطُ أَنْ يَكونَ مُباحًا، لِأنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الإِزَالَةِ، وَلـهذَا لَو أَزَلتَ النَّجاسَةَ بِماءٍ مَغصوبٍ طَهُرتِ النَّجاسَةُ.

وَلماذَا سُمِّىَ إِزالَةُ الخَارِجِ منَ السَّبيلَينِ بِحجَرٍ أَو مَا يَقومُ مَقامَهُ استِجْمارًا؟

قَالَ العُلماءُ: مَأخُـوذٌ منَ الجِمارِ، وَهِـيَ الحَصى، فَالحصَى غَيرُ الكَبيرَةِ تُسمَّى جِمارًا، وَمِنهُ قَولُـهمْ عَليهَا جَمرَاتٍ، لِأنَّها تُرمَى بِأحجَارٍ صَغيرَةٍ، لَكنَّ الحَجرَ الَّذِي يُسْتَجمَرُ بهِ لَيسَ كَالحَجرِ الذِي يُرمَى بِهِ، بَل هُوَ بِلا شَكٍّ أَكبَر مِنهُ.

قَولهُ: «وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ»، أيْ: صَحَا مِن النَّوم «فَلْيَغْسِلْ»، وَقَولهُ: «مِنْ نَوْمِهِ»، مُفردٌ مُضَافٌ؛ فيَعُمُّ كُلَّ نَوم.

وَإذَا نَظرَنَا إِلَى قَولِه: «مِنْ نَومِهِ» قُلنَا إِنَّهُ يَشمَلُ نَومَ اللَّيلِ ونَوْمَ النَّهارِ، وَكَذلِكَ إِذَا نظَرنَا إِلى التَّعلِيلِ بِقولِهِ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي» قُلنَا: لِأَنَّ النَّائِمَ في النَّهارِ لَا يَدرِي عَن نَفْسِه أَيضًا كَالنَّائِم في اللَّيلِ، وَعَلى هَذَا فَيكُونُ الحَدِيثُ عَامًّا لِنَومِ اللَّيلِ ونَومِ النَّهارِ، وَإِلى هذَا ذَهَبَ كَثيرٌ مِنْ أَهلِ العِلمِ، وَقالُوا: إِنَّ النَّائِمَ إذَا استَيقَظَ مِن نَومِه مِنَ اللَّيلِ أَوِ النَّهارِ فَليَغْسِلْ يَدَيهِ قَبلَ أَنْ يُدخِلَهمَا في الإِناءِ ثَلَاثًا.

وَذَهبَ بَعضُ العُلماءِ إِلى أَنَّ المُرادَ بِالنَّومِ هُنَا نَومُ اللَّيلِ، قَالُوا: لِأنَّ النَّبيَّ  قَالَ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، وَالبَيْتُوتَةُ لَا تَكونُ إِلا بِاللَّيلِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اسْتَيقظَ مِن نَومِ النَّهارِ فَإنَّهُ يَجوزُ أَن يَغمِسَ يدَهُ في الإِناءِ قَبلَ أَن يَغسِلَهَا ثَلاثًا، وَلا شَكَّ أَن هَذَا القَولَ لَه وِجهَةُ نَظرٍ قَوِيَّةٍ، وَلكِنَّ الِاحتِياطَ أَن تَغسِلهَا قَبلَ غَمسِهَا في الإِناءِ ثَلاثًا سَوَاءٌ قُمتَ مِن نَومِ اللَّيلِ أَو مِن نَومِ النَّهارِ، هَذَا هُو الاحْتيَاطُ.

وَقولُه: «فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثَةً»، فَاللَّام في قَولهِ: «لِيَغْسِلْ» لِلأَمْر؛ وَلهذَا سُكِّنَت.

وَإذَا أُطْلِقَت غَسْلةٌ في الشَّرع؛ فيَعنِي أنَّه المرُورُ علَى العُضوِ مَرةً واحِدةً.

وَلامُ الأَمْر: تُسَكَّن إِذَا وَقعتْ بَعدَ (الـوَاو)، وَ(الـفَاء)، وَ(ثُم)، كَـما قَال اللَّ‍هُ : ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّ‍هُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ [الحج:١٥]، فَهنَا (الفَاء) و(ثُم)، وَقالَ تعَالَى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا﴾ [الحج:٢٩]، وَهنَا (ثُم، وَالوَاو).

وَلَام التَّعلِيل: تُكسَر بَعدَ هَذهِ الثَّلَاثةِ؛ وَلهذَا يُخطِئ مَن يَقرأُ قَولَ الله تَعالَى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت:٦٦]، إذَا كَانَ يُريدُ لَامَ (كَيْ)، أَمَّا إنْ كَان يُريدُ لامَ الأَمرِ فَننظُر هَل هِيَ قرَاءةٌ أَو لَا؟ وَإذَا كَان يُريدُ لَامَ التَّعليلِ، فَإنَّه يَجبُ أَنْ تُكسَرَ.

قَولهُ: «ثَلَاثًا»: هَذِه مَفعولٌ مُطْلَق عَامِلُها قَولُه: «فَلْيَغْسِلْ»: يَعنِي غسْلًا ثلَاثًا.

قَولُه: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»: أَي: لَا يَعْلَم أَينَ بَاتَتْ، وَنَامتْ لَيلًا، وقَولُه: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ»: هِي جُملةٌ لتَعليلِ قَولِه: «فَلْيَغْسِلْ».

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كُـلٌّ يَدرِي أَنَّ يدَه بَاتَت في فِـرَاشِهِ مَعَـهُ، فَـما وَجْهُ قَولِـه ﷺ: «لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»؟

قَالَ بَعضُ العُلمَاءِ: لَا يَدرِي أَينَ بَاتَتْ يَدُه هَلْ هِي تَجَولَتْ في جَسَدِه وَمَسَّتْ شيئًا نَجِسًا تَحتَاجُ مَعَهُ إِلى تَطْهِيرٍ، وَبِناءً عَلى المَعْنَى الأَوَّلِ قَالَ هَؤُلاءِ: لَو وَضَعَ يدَه في كِيسٍ فَإنَّه لا يَجِبُ أَن يَغسِلَهَا قَبلَ غَمسِهَا في الإِنَاءِ لأنَّهُ قَد حَفِظَها مِنَ التَّلوثِ بِما يَحصُلُ مِن بَدَنِه.

وَقَالَ آخَرونَ: لَا يَدرِي أَينَ بَاتَتْ يَدُه لأَنَّ الشَّياطِينَ قَد تَعبَثُ بِه في مَنَامِه، وَتُلَوثُ يَدَيهِ، فَإذَا غَمسَهَا في الإِنَاءِ قَبلَ أَن يَغسِلَهَا ثَلاثًا فَلَوثَ الإنَاءَ بهذِهِ الأشْياءِ الضَّارةِ، وَهُو لَا يَدرِي، وَهَذا القَولُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَالنَّبيُّ  يُريدُ مِنَّا أَنْ نَبتَعدَ عَن كُلِّ مَا يَضُرُّ.

قَولُـه: «وفي لفْظٍ لمُسْلِم: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الـمَاءِ»، هَذَا بَيانٌ لمَعْنـى الاسْتِنشَاق، وَإلَّا فلَا يَختَلفُ عمَّا سَبقَ.

قَولُه: «وفي لَفْظٍ لمُسْلم»: أَو إِذَا قَال: «فِي رِوَايَة» وَالظَّاهِر أنَّ الفَرقَ بَينَ اللفْظِوالرِّوايَة مَا يَلي:

اللفْظُ: يَدورُ علَى شَخصٍ وَاحِد، فيتَّفِق الرُّواةُ في التَّابعِي؛ لِأنَّ الرُّواةَ اخْتلفُوا في اللفْظِ الَّذِي نَقلُوه عَنِ التَّابِعي.

الروايَةُ: إِذَا جَاءتْ عَن طَريقٍ مُستَقلٍ بِصحَابي آخَرَ وتَابعِي آخَرَ.

فَإن قِيلَ: «عَن حَديثِ أبِي هُرَيرةَ» وَجاءَ مِن طَريقَينِ غَيرِ مُتَّفِقَيْن إِلى التَّابِعي إلَّا فِي أَبي هُرَيرةَ، فَهذِه رِوَايةٌ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الاخْتِلافُ عَن أَحدِ الشُّيوخِ في أَثنَاء السَّنَد، فَهذَا لَفظٌ.

قَولهُ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ»: مِثلُ قَولِه السَّابقِ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ»؛ لِأنَّ الانْتِثَارَ يَكونُ بَعدَ الاسْتنشَاقِ.

ويُشرَعُ لِمَن فَرغَ مِنَ الوُضوءِ أَن يَقولَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّ‍هُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»؛ لِأجْلِ أنْ يُطهِّرَ قَلبَه مِنَ الشِّركِ في قَولِه: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّ‍هُ»، وَمنَ البِدعَةِ في قَولِه: «أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

وَلِلْعُلماءِ فِيمَا إذَا غَمسَ يَدَه قَبلَ غَسلِهَا ثَلاثًا ثَلاثَةُ آرَاءٍ:

الرَّأيُ الأَولُ: أَنْ تَكُونَ نَجِسةً، حُجَّتُهُم هُو قَولُ النَّبيِّ ﷺ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعُ يَدَهُ فِي الـمَاءِ حَتَّى يَغْسِلَ يَدَهُ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» فَقَالَ رجُلٌ: لِأنَّه رُبمَا تَتَجولُ يَدُه بِبدَنِه وَتُصيبُ شَيئًا نَجِسًا فَيَتنَجسُ المَاءُ.

الرَّأيُ الثَّاني: أَنْ تَكُونَ مُطَهرَةً، وَهذَا هُو القَولُ الرَّاجحُ؛ لِأنَّ التَّنجِيسَ لَا يَثبُتُ في الِاحْتمالِ.

الرَّأيُ الثَّالثُ: أَن يَكونَ المَاءُ طَاهِرًا غَيرَ مُطَهَّرٍ، وَهذَا الرَّأيُ غَيرُ وارِدٍ؛ لِأنَّ فيهِ إِثبَاتُ قِسْمٍ ثَالِثٍ في الِميَاهِ لَيسَ علَيهِ دَليلٌ، وَالأَدِلةُ إنَّما دَلَّتْ عَلى أَنَّ المَاءَ قِسمانِ فَقَطْ لِقَولهِ ﷺ: «أَنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، فَجَعَلهُ الرَّسولُ ﷺ قِسمَينِ: الطُّهُورَ، وَيُقَابلُه النَّجَسُ.

وَلكِنَّ هَذا الرَّجلَ إِمَّا أَنْ يَأثَمَ، وَإمَّا أَن يَكُونَ قَد خَالَف الأَمرَ وَلا يَأثَمُ بِناءً عَلى أَنَّ الأَمرَ لِلاسْتِحبَابِ.

مِن فَوَائدِ هَذا الحَدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: وجُوبُ الاسْتِنْثَار؛ لِقَولِه: «فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ».

وَقِيلَ: لَا يَجِبُ الِاسْتِنْثَارُ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاسْتِنْشَاق، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ اسْتَنْشَقَ وَابْتَلَعَ الماءَ أَجْزَأَهُ.

وعَلَى فَرضِ أَنَّنَا سَلَّمْنا أنَّه لَا يَنْبغِي لِلإِنْسانِ أَن يَستَنشِقَ المَاءَ وَيبتَلعَه لأنَّ الماءَ سَيَمُر بِأَشيَاءَ مُؤذِيَةٍ قذِرَةٍ، فَإذَا ابْتلَعَه رُبمَا يَحْدُثُ لهُ ضَررٌ، هَذَا مِن وَجْه.

ومِنْ وَجْهٍ آخَرَ: رُبمَا يَمُرُّ الماءُ بِالخيَاشِيمِ وَيَحْتَقِنُ في خَيشُومٍ مِنهَا فَيُسَبِّب الْتِهابًا أَو ضَررًا؛ وَلهذَا جَاءَ هَذا اللَّفظُ: «فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً»، فَلوْ أنَّ الإِنْسانَ أَخذَ المَاءَ ثُم ضَغَطَ عَليهِ حَتَّى دَخلَ في الأَنفِ كَفَى وَإنْ لَم يَسْتَنشِقْه.

فَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا وُجُوبُ الِاسْتِنْشَاقِ، أَوْ جَعْلُ الماءِ فِي الْأَنْفِ دُونَ الِاسْتِنْثَارِ، لَكِنْ لَا شَكَ أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَمَرَ بِهِ.

• الفَائِدَةُ الثَّانيةُ: وُجوبُ الإِيتَارِ فِي الاسْتِجمَار؛ لِقَولِه: «فَلْيُوتِرْ»، وَاللَّام لِلأمْرِ، وهَذَا في الثَّلاثِ مُسلَّم، لحَديثِ سَلمانَ الفَارسِيِّ : «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»، فَالإِيتَارُ بِثلَاثةٍ وَاجِبٌ، وَلا يُمكِن أَنْ يَطْهُرَ المحَلُّ إلَّا بِثلَاثةٍ.

وَلَكنْ قَد رَوَى أَهْلُ السُّننِ مَا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الإِيتَارَ في الاسْتِجْمارَ لَيسَ بِواجِبٍ، بَل هُوَ سُنَّة إِلَّا في الثَّلاثِ فَإنَّه لَا بُدَّ مِنهَا.

وَكَذلِك الماءُ لَا يُطَهِّر إِلَّا بِثلَاثِ غَسلَاتٍ، وَإذَا كَانَ الخارِجُ رَطْبًا، فَالظَّاهِر أَنَّه لَا يطَهرُ بأَقلَّ مِن ثَلَاثٍ، خُصُوصًا البِرازُ، أَمَّا إِذَا كَانَ جَافًّا، فَالأَمرُ سَهلٌ، حتَّى إنَّ بَعضَ العُلَماءِ يَقولُ: «إِذَا كَانَ جَافًّا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ أَدْنَى رُطُوبَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اسْتِجْمَارٌ وَلَا اسْتِنْجَاءٌ»، كَالوِلَادةِ العارِيَة مِنَ الدَّم لَيسَ فِيهَا نِفَاسٌ، وَهذَا شَيْءٌ بَعيدٌ نَادِرٌ، لَا حُكْمَ لَهُ.

فَإِذَا زَادَ عَنْ ثَلَاثَةٍ، فَهُوَ سُنَّةٌ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوِ اسْتَنْجَى بِأَكْثَرَ، وَلَوْ بِأَرْبَعٍ فَإِنَّهُ لَا نَهْيَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْإِيتَارِ هُنَا أَمْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالمُسْتَحَبِّ، وَهَذَا نَادِرُ الْوُجُودِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا يَدُورُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيُسَمَّى عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ: «اسْتِعْمَالُ المُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ جَمِيعًا».

فَإِذَا زَادَ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَلْيُوتِرْ كَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ الأَربَعةَ خَمسةً، والسِّتةَ سَبعَةً؛ لِقَولِه: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ».

إِذَا جَاءَ الدَّليلُ مُحتمِلًا مُتشَابِهًا، وَعِندَنَا دَليلٌ آخَرُ وَاضِحٌ مُحكَمٌ، فيُحمِلُ المحْتَمِلَ عَلَى الوَاضِحِ.

مِثَالُه: قَولُ اللَّ‍هِ  فِي أَهلِ النَّارِ: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ [هود:١٠٧]، إِمَّا عَلى سَبيلِ تَقيِيدِ الخُلُودِ، أَو تَقْييدٍ لِقَولِه: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [هود:١٠٧]، فَهُنا أَصبَحَ مُتَشَابهًا، وَصَارَ التَّأبِيدُ مُحكَمًا وَاضِحًا.

فَاللَّ‍هُ  لَه حِكْمةٌ في أَنْ يَجعلَ بَعضَ النُّصُوصِ مُشتَبهَةً حتَّى يَمْتحِنَ العَبدَ، هَل يَأخُذ بِهذِه المشْتَبهَاتِ أوْ يَأخذُ بِالمُحْكَماتِ، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران:٧].

قَد يَقولُ قَائلٌ: إِنَّه فِي الجَنَّة قَالَ: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود:١٠٨].

قُلْنا: نَعَم، هَذَا مَا تَقتَضِيه حِكمَةُ اللَّ‍هِ  بِهذَا التَّعبِير، لِأنَّه لـمَّا كَانَ خُلودُ أَهلِ الجَنَّة عَطاءً وَفَضْلًا؛ تَمدَّحَ اللَّ‍هُ بِه بِأنَّه غَيرُ مَقطوعٍ دَائمًا، لَكِنْ في النَّارِ لـمَّا كَانتْ عقوبةً وَانتقَامًا مِنَ المجْرِمينَ؛ لَم يَذْكُرْ ذَلكَ، بَلْ قَالَ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود:١٠٧]، وَمِن فِعْلِه لِـما يُريدُ: أَنْ يُخلِّدَ هَؤلَاءِ، واللَّ‍هُ  في مَقَامِ الانتِقَامِ لَا يُصَرحُ أَحيَانًا بِمَا يُضَافُ إِليهِ  وَفِي مَقامِ العَطَاء وَالفَضلِ، هُوَ كَرمٌ وَاضِحٌ.

وانْظُر إِلَى قَولِ الجِنِّ، وَعندَهمْ أَدَبٌ وَطِيبَة في بَعضِ الأَحيَانِ: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن:١٠]، تَعبيرٌ عَجيبٌ قَد لَا يُوجَد عِندَ بَعضِ الإِنسِ، فَالجِن أَضَافوا الرَّشَدَ إِلَى اللَّ‍هِ، وَكَذلِك قَولُه تَعَالى: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا﴾ [الأحقاف:٢٩]، وَتَأثَّروا بِذلكَ، ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾.

وفي هَذِه الآيَةِ ثَلاثُ فَوائِدَ:

الْأولَى: تآمَرُوا وَتَوَاصَوْا بِالْإنصَات.

الثَّانيةُ: لَم يَقُم أَحدٌ منْهُم قَبلَ انْقضَاءِ الحَدِيثِ، ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ مَا رَاحُوا قَبْلَ أَنْ ينتَهيَ، بَل بَقَوْا حَتَّى انْتهَى وقُضِيَ.

الثَّالثَةُ: تَأثَّرُوا بِذَلكَ، وَدَعَوْا إِليهِ، ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ وَذَكَروا مَا سمِعُوا.

• الفَائِدَةُ الثَّالثةُ: يَجبُ أنْ يَغْسلَ الإِنْسانُ يَدَيْهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، إِذَا قَامَ مِنَ النومِ قَبلَ أنْ يُدخِلَهما فِي الإِناءِ؛ لِقولِهِ: «وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا».

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْل أَوِ النَّهَار؛ لِأنَّ اللَّفْظ عَامٌّ، وَالنَّوْمَ مُفْرَدٌ مُضَاف، فَيَشْمَلُ كُلَّ نَوْمٍ، فمَنْ نَظَرَ إِلَى عُمُوم اللَّفْظ قَالَ: إِنَّهُ عَام، فَقَوْله: «مِنْ نَوْمِهِ» مُفْرَدٌ مُضَاف فَيَشْمَلُ كُلَّ نَوْمٍ، وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَى تَعْلِيل الحُكْمِ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، قَالَ: إِنَّه خَاصٌّ.

والظَّاهِرُ أنَّه فِي نَومِ اللَّيلِ؛ لِأنَّ قَولَه: «بَاتَتْ» لَا تَكُونُ البَيتُوتَةُ إِلا فِي اللَّيلِ، يجبُ أَنْ يَغسِلَها قَبلَ إِدخَالِ الإِناءِ ثَلَاثًا، وَأَما فِي نَومِ النهَارِ فَلَا يَجبُ، لَكِنْ يَنْبغي أَنْ يُفعلَ احتِياطًا، وَإِنمَا خصَصنَاهُ بِنومِ الليلِ؛ لِأنَّ العِلةَ تَقتَضي ذَلكَ؛ لِأنَّ اللَّيلَ هُوَ مَحلُّ خُروجِ المؤْذِياتِ مِن بَنِي آدَمَ وَمنَ الشَّيَاطينِ وَغَيرِه.

• الفَائِدَةُ الرَّابعةُ: إِطْلَاعُ النبِيِّ ﷺ عَلَى عِلمِ الغَيبِ الَّذِي لَا يَعلَمُه أَحدٌ مِنَ النَّاسِ؛ لِأنَّ قَولَه: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَعْلَمُ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» عَلَّلَهُ بَعضُ العُلَماءِ بأَنَّ الشَّيطَانَ يَعْبَثُ في يَدِه، وَلَا يَدرِي الإِنْسَانُ مَاذَا حدَثَ مِن هذَا العَبثِ، فَقدْ يَكونُ عَبَثٌ بِحَملِ أَشيَاءَ ضَارَّةٍ للشَّخصِ وَلَا تَزولُ إلَّا بِغَسْل، ويجُوزُ أنْ يَكونَ لِغَير هَذَا.

• الفَائِدَةُ الخَامسَةُ: وُجوبُ الاحْتيَاطِ، وَوجْهُه أنَّ الرَّسُـولَ ﷺ أَمَـرَ بِالغَسـلِ احتِيَاطًا؛ لِأنَّ قَوَله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» يدُلُ عَلَى أنَّ هَذَا لِلاحْتِيَاط، وَإلَّا لَكانَ التَّعلِيلُ (فإِنَّ يَدَ أحَدكُم تَبِيتُ في كَذَا).

وَاسْتَدَلَّ بَعضُ العُلَماءِ بِهَذَا الحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ تَجَنُّبِ الثَّوْبِ المشْكُوكِ في نَجَاسَته، وأَنَّه لَا يُلبَسُ حَتَّى يُغْسَلَ.

ودَلِيلُهم: أَنَّ قَولَه: «لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ» مِثلُه، وَلكِنَّ هَذَا غَيرُ صَحيحٍ؛ وَذَلكَ لِأنَّه لَوْلَا ورُودُ النصِّ فِي هَذهِ المسأَلةِ لَكَانَ الأَصْل عَدَمَ وجُوبِ الغَسلِ، وَالثَّوبُ لم يَرِد فِيه نَصٌّ؛ لِأننَا لَو شَكَكْنا فيهِ فَيَجبُ غَسلُه، بَلِ الأَمرُ بِالعَكسِ، فَإنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّ‍هُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ- شُكِيَ إِلَيه الرَّجُلُ يُخيَّل إلَيهِ أَنَّه أَحْدَثَ، فَقالَ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

وَعَلَى هَذَا: فَإِذَا شَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ الثَّوْبِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ بَقَاءُ الطَّهَارَةِ حَتَّى نَتَيَقَّنَ أَنَّهُ تَنَجَّسَ، حَتَّى لَو أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ أَنَّهُ تَنَجَّسَ، فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ.

وَرُبَّمَا يَحْدُثُ هَذَا لِلْإِنْسَانِ إِذَا تَبَوَّلَ عَلَى أَرْضٍ صُلْبَةٍ ثُمَّ أَصَابَهُ رَشَاشٌ، فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ إِذَا أَصَابَ سَاقَهُ الرَّشَاشُ فَسَوْفَ يُصِيبُ السِّرْوَالَ، فَنَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَعَدَمُ الْإِصَابَةِ.

وهو حديث: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».

وَدَليلُ ذَلكَ أنَّه لَو أَصَابَتْ جُزءًا مِن سَاقِكَ نُقطةٌ، وَالبَاقي لَم يُصِبْه شَيْءٌ، إذَنْ فَالثوْبُ لَم يُصبهُ شَيْءٌ مِثلَ البَاقِي الَّذي بَقِيَ مِنَ السَّاقِ، وَالمسْأَلَة لَيسَ فِيهَا إِشْكالٌ، لَكنَّ الشَّيطَانَ قَد يَأتِي بَعضَ النَّاسِ ليُوَسْوِسَ أَنَّه قَدْ أَصَابَ البَولُ سَاقَهُ فَلَا بُدَّ أَن يَكونَ قَدْ أُصيبَ سِروَالُه أَيضًا، لَكنَّ هَذَا غَيرُ صَحيحٍ فَاطْرُدِ الوَسَاوِسَ عَنكَ، وَلَا تجْعَلْهَا تَسْتَوْلِي عَليكَ لِتَهدِمَكَ.

• الفَائِدَةُ السَّادسَةُ: اعتِبارُ العَدَد (ثَلَاثَة) في الشَّرعِ، وَهذَا مَوجُودٌ في أَحَاديثَ أُخرَى، مِنهَا: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ.»، وَمَا أشْبَه ذَلكَ.

وَهنَاكَ أَعدَادٌ اعْتَبَرهَا الشَّرعُ غَيرَ الثَّلاثِ، فاعْتبَرَ الاثْنينِ، وَالأربَعَ، وَالخَمسَ، وَالسِّتَّ، والسَّبعَ.

• الفَائِدَةُ السَّابِعةُ: حُسنُ تَعلِيمِ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ وَجهَينِ:

الوَجْهُ الأَولُ: أَنَّه ذَكرَ ثَلاثَ مَسائِلَ كُلهَا مُتَقَارِبَةٌ، هِيَ الِانتِثَارُ في الوُضوءِ، وَالِاسْتِجمَار، وَغَمْس اليَدِ بِالإِنَاءِ لإِخرَاجِ المَاءِ لِيُتوَضَّأَ مِنهَا، وَهذِهِ قَاعِدةٌ تَكونُ مُتقَارِبَةً أَو مُتقَارِنَةً، فَلِهذَا ذَكَرَها النَّبيُّ ﷺ جَميعًا.

الوَجهُ الثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّ‍هِ ﷺ لـمَّا أَمَر بِغَسلِ اليَدِ قَبلَ إِدخَالِها في الإِناءِ ثَلَاثًا عَلَّلَ الحُكمَ في قَولِه: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، وَتَعْليلُ الأَحكَامِ الشَّرعِيةِ لَه فَوائِدُ ثَلَاثٌ:

أَوَّلًا: بَيانُ سُموِّ الشَّريعَةِ الإِسلَامِيَّةِ، وَأنَّ أَحكَامَهَا كُلَّها مَقرُونَةٌ بِالحِكَمِ، لِأنَّ العِلَلَ حِكَمٌ، وَلَكِن مِنَ الحِكَمِ مَا يَكُونُ مَعلُومًا لِلناسِ، وَمنْهُ مَا يَكونُ مَجهُولًا،

الحِكَمِ مَا يَكونُ مَعلُومًا لِكُلِّ أَحدٍ، وَمِنَ الحِكَمِ مَا يَكونُ مَعلُومًا لأَهلِ العِلْمِ دُونَ غَيرِهِم، فَالحِكَمُ الَّتِي رُتِّبَتْ عَليهَا الأَحكَامُ الشَّرعِيَّةُ ثَلَاثٌ:

١- حِكَمٌ مَعلُومةٌ لِجَميعِ النَّاسِ، مِثلَ: السِّواكِ، حِكمَتُه تَطهِيرُ الفَم، كَما جَاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «السِّوَاكُ مَطْهَرةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»، وَتَحْرِيمُ السُّم حِكمَتُه مَعلُومةٌ لِكلِّ النَّاسِ حتَّى العَوَامِّ؛ لأنَّهُ يَقتُلُ.

٢- حِكَمٌ مَعلُومةٌ لِأَهلِ العِلمِ خَاصَّةً، وَالعَامةُ لَا يَدرُونَ عَنهَا، مِثلَ الوُضُوءِ، أَو وُجوبِ الوُضُوءِ مِن لَحمِ الإِبلِ، فَإذَا أَكَلتَ لَحمَ إبِل وَجبَ عَليكَ أَن تَتَوضأَ وُجُوبًا؛ لِأنَّ النَّبيَّ ﷺ أَمرَ بِالوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الإِبلِ، وَسُئلَ: أَنتَوضَّأُ مِن لُحومِ الغَنمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ»، قَالُوا: أَنتَوضَّأُ مِن لُحومِ الإِبلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَكَونُه جَعلَ الوُضوءَ مِن لحْمِ الغَنَمِ مَوْكُولًا إِلى المَشِيئَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَحمَ الإِبلِ لَيسَ مَوكُولًا إِلى مَشِيئةِ الإِنسَانِ، وَأَنَّهُ وَجَبَ عَليهِ أَن يَتَوضَّأَ مِنهُ وجُوبًا، سَوَاء نيِّئًا أَو مَطبُوخًا، وَسَواءٌ كَانَ مِنَ الهبر أَو مِنَ الكَبِدِ أَو مِنَ الأَمعَاءِ أَو مِنَ الرَّأسِ أَو مِنَ القَلبِ أَو غَيرِ ذَلكَ.

فهَلْ وُجُوبُ الوُضوءِ مِن لَحمِ الإِبلِ مَعْلومُ الحِكمَةِ؟

قَالَ بَعضُ العُلمَاءِ: هُوَ غَيرُ مَعلومِ الحِكمَةِ، وَفَرضُنَا فِيهِ التَّسلِيمُ.

وَقالَ بَعضُ العُلماءِ: بَلْ إِنَّ وُجوبَ الوُضُوءِ مِن أَكلِ لَحمِ الإِبلِ لَه حِكمَةٌ، وَهِيَ أنَّ الإِبلَ خُلِقَت مِنَ الشَّياطِينِ، يَعنِي أَنَّ فِيهَا طَبيعَةٌ مِن طَبيعَةِ الشَّياطِينِ، وَليسَ المَعنَى أَنَّ مَادَّتَها منَ الشَّياطِينِ، كَما أَنَّ اللَّ‍هَ قَالَ: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء:٣٧]،

يَعنِي مِن سُرعَةٍ، وَمَادَّةُ الإنسَانِ التُّرابُ، لَكنَّ المعْنَى لـمَّا كَانَتْ طَبيعَتُه العَجَلةُ صَارَ كَأنَّه خُلِقَ مِنهَا، فَفي الإِبلِ قُوةٌ شَيطَانِيةٌ وَالقُوةُ الشَّيطَانِيَّةُ تُطْفى وتُخفَّفُ بِالمَاءِ، وَلهذَا لَـما كَانَ الغَضَبُ مِنَ الشَّيطَانِ أَمَرَ النَّبيُّ ﷺ الرَّجُلَ إذَا غَضِبَ أَن يَتوَضَّأَ، وَعَلى هَذَا تَكونُ الحِكمَةُ مَعلُومَةً لَكنَّهَا خَفِيَتْ عَلى كَثيرٍ مِنَ العُلمَاءِ.

٢- حِكَمٌ مَجهُولَةٌ لِلجَمِيعِ، مِثلُ كَونِ الصَّلَواتِ خَمسةً يَومِيًّا، وَكَونِ الظُّهرِ أرْبعًا، وَالعَصْرِ أرْبعًا، وَالمغْربِ ثَلاثًا، وَالعِشَاءِ أَرْبعًا، وَالفَجرِ اثْنتَينِ، وَهذَا مِنَ الابْتِلاءِ وَالِاختِبارِ، أَنْ يُكلِّفَ اللَّ‍هُ العِبادَ بِأَشيَاءَ لَا يَعرِفُونَ حِكمَتَها لِيعلَمَ  مَنْ يَنقَادُ لِشرْعِ اللَّ‍هِ ممَّنْ لَا يَنقَادُ إِلا لِهوَاهُ، وَالعُلمَاءُ يُسمُّونَ الحُكْمَ الَّذِي لَا تُعرفُ حِكْمَتُه تَعبُّدِيًّا، يَعنِي غَيرَ مُعلَّلٍ وَلكِننَا نَتَعبدُ للَّ‍هِ تَعالَى بِهِ.

ثَانِيًا: زِيَادَةُ الطُّمَأنِينَةِ لِقَبولِ الحُكمِ، فَإنَّ الإنسَانَ إِذَا عَلمَ الحِكمَةَ مِنَ الشَّيءِ ازدَادَ طُمَأنِينَةً في قَبُولِ ذَلكَ الشَّيءِ، وَالنَّبيُّ ﷺ سُئلَ عَنْ بَيعِ الرُّطَبِ بِالتَّمرِ، لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ حَرَامٌ، لَكِنَّهُ أَشَارَ إِلى الحُكمِ بِذكرِ العِلةِ فَقالَ: «أَيَنْقُصُ إِذَا جَفَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلكَ.

ثَالثًا: إِمكَانُ القِياسِ عَلى ذَلكَ الحُكمِ المعَلَّلِ في شَيءٍ يُشَارِكُه في تِلكَ العِلَّةِ، فَكَما أنَّ البَيعَ عَلى بَيعِ المسْلِمِ حَرامٌ لِأنَّهُ يُحدِثُ العَدَاوَةَ، إِذَنِ التَّأجِيرُ عَلى تَأجِيرِ المسْلِمِ حَرَامٌ لإِحدَاثِ العَدَاوَةِ، وَعَلى هَذَا فَقِسْ.

الفَائِدةُ الثَّامِنةُ: قُصورُ عِلمِ الإِنْسَانِ، لِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».

----------------------------

كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم (٢٥٨٥).

كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا، رقم (١٦٢)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها، رقم (٢٧٨).

كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، رقم (٢٣٧).

أخرجه أحمد(٢ / ١٩، رقم ٤٦٨٨).

انظر الفتاوى الكبرى (٥ / ٣٠٤).

كتاب الطهارة، باب الاستطابة، رقم (٢٦٢).

خرجه ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث رقم (٣١٤)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الوضوء، باب النهي عن المحادثة على الغائط رقم (٧٠)، والطبراني في المعجم الكبير رقم(٩٩٦٠).

أخرجه أحمد في مسنده(٣ / ٣٣٦، رقم ١٤٦٦٨)، والدارقطني في سننه: كتاب الطهارة، باب الاستنجاء، رقم(١٥٢).

كتاب الطهارة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم (٤٥٠).

كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عند الوضوء، رقم (٢٣٤).

أخرجه أحمد (٣ / ٣١، رقم ١١٢٧٧)، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، رقم (٦٦)، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء رقم (٦٦)، والنسائي كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة رقم (٣٢٦).

كتاب الطهارة، باب الاستطابة، رقم (٢٦٢).

كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتَّى يستيقن، رقم (١٣٧)، ومسلم: كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، رقم (٣٦١).

وَمِنَ كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم (١٦)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم (٤٣).

كتاب الصيام، باب سواك الرطب واليابس للصائم، رقم (١٩٣٣).

كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل رقم (٣٦٠).

كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل رقم (٣٦٠).

أخرجه الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة رقم(١٢٢٥)، والنسائي كتاب البيوع، باب اشراء التمر بالرطب رقم(٤٥٤٥)، وابن ماجه كتاب التجارات، باب بيع الرطب التمر رقم(٢٢٦٤)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:4

إرسال تعليق

أحدث أقدم