■ الحديث: وله في حديث عبد اللَّه بن مُغَفَّل أنّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
قَولهُ: «إِذَا شَرِبَ»، و«إِذَا وَلَغَ»: يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْوُلُوغَ هُوَ الشُّرْبُ، لَكِنَّ شُرْبَ الْكَلْبِ شُرْبٌ خَاصٌّ، فَالْوُلُوغُ هُوَ أَنْ يَشْرَبَ بِطَرَفِ لِسَانِهِ، وَلَا يَضَعَ كُلَّ فَمِهِ فِي الماءِ وَيَعُبُّ.
وقَولهُ: «الْكَلْبُ»: المُرادُ بِهِ الجِنْسُ، فَيشمَلُ جَميعَ الكِلابِ حَتَّى الكِلَاب المَأذُونِ فِيهَا، بَل لَو قِيلَ: إِنَّ دُخُولَ الكِلابِ المأذُونِ فِيهَا مِن بَابِ أَولَى؛ لَكَانَ أَولَى؛ لِأَنَّ الغَالِبَ أنَّ الَّذي يُساكِنُ النَّاسَ هِي الكِلابُ المَأذُونُ فِيهَا.
أي: التي أذِن الشرع باقتنائها، ككلاب الحراسة أو الصيد.
قَولهُ ﷺ: «فِي الإِنَـاءِ»: خَرَجَ بِهِ مَا لَـو وَلَـغ في بِركَـةٍ، أَو سَـاقيَةٍ، أوْ مَا أَشبَهَ ذَلكَ.
وقَولهُ: «فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ»: ليسَ هَذَا قَيدًا مُخْرِجًا، أَو قَيدًا مَشرُوطًا، لَكنَّه قَيْد أَغلَبِيٌّ، وَلهذَا لَو وَلَغ في إِنَاء غَيرِه وَهُو عِندَه، فَالحُكمُ وَاحدٌ.
وَمَا كَانَ قَيدًا أَغلَبيًّا فَـإنهُ لَا مَفهُـومَ لـه، كَـمَا أنَّ مَا كَانَ قَيدًا بَيَانًا لِلوَاقـعِ فَلا مَفهُومَ لَه.
فَقولُه: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾ [النساء:٢٣]، فَقولُه: ﴿فِي حُجُورِكُم﴾ هَذَا قَيد غَالِبٌ؛ وَلهذَا لم يَذكُرِ اللَّهُ مَفْهُومَه، بَل قَالَ: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾، وَلـم يَقُل: «إنْ لـم يكُنَّ في حُجُورِكم»، فَهذَا القَيدُ الَّذي لِبيَانِ الوَاقِع.
قَولُه تَعَالى أَيضًا: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ [المؤمنون:١١٧]، فَقولُه: ﴿لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ لَا يَدلُّ عَلَى أَنَّ الآلهَةَ مِن دُونِ الله مِنهَا مَا لَه بُرهَانٌ، وَمنهَا مَا لا بُرهَانَ لَه بِه، لَكنَّ هَذَا لِبيَان الوَاقعِ.
كَذلِك قَولُه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:٢٤]، لَا يُفهَم مِنهُ أنَّهُ لَو دَعَانا لِـمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ فَلا نُجِيبُه؛ لِأنَّه لَا يَدعُونَا إلَى مَا لَا حَياةَ لَنَا بِهِ.
إِذَن، فَانتَبِه لـهَاتَيْن القَاعِدَتينِ:
كُلُّ قَيدٍ لِبيَانِ وَاقعٍ، فَلا مَفهُومَ لَه.
كُلُّ قَيْدٍ لِبيَانِ الأَغلَبِ، فَلَا مَفهومَ لَه.
قَالَ تَعَالى أَيضًا: ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ [التوبة:٨٠]، وَتِسْعِينَ كَذلِكَ، وَقَولُه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:٧]، وَمثقَال جبَلٍ كَذلِكَ، وَقَولُه ﷺ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا»، وَمَنِ اقْتَطَع مِيلًا، وَاللَّهُ أَعلَمُ.
وَإذَا وَلَغ كَلبٌ في إِنَاءٍ فَغسَلُوه بِالصَّابونِ والكلونيا والمُطهِّراتِ، فَإِنهُ لا يَطْهُر إذَا قُلنَا بِأنَّها تعَبُّدِيَّةٌ، أمَّا إِذَا قُلنَا: إنَّ هَذَا كَانَ هُو المتَوفِّرَ في عَهدِ الصَّحَابَةِ، فَإِنهُ يَطْهُر، وَالاقْتِرَابُ هُوَ في عَهدِ الصَّحَابةِ بِغَرضِ إِزَالةِ النَّجاسَةِ، وَالأَحوَطُ: غَسْلُه بالتُّرابِ.
يَعْنِي إِنْ قُلْنَا: تَعَيُّنُ التُّرَابِ لِلتَّطْهِيرِ تَعَبُّدِيًّا فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا مَنْ عَدِمَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ تَعَبُّدِيًّا، وَلَكِنْ لِلتَّنْظِيفِ، وَكَانَ هَذَا هُوَ المتَيَسَّرُ فَإِنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَه.
وَالْأَحْوَطُ هُوَ أَنْ يَغْسِلَهُ بِالتُّرَابِ.
وَإِنْ وَلغَ ذِئبٌ في إِنَاءٍ، فَإنهُ يُغسَل مرَّةً وَاحِدةً؛ لِأنَّ الحُكمَ خَاصٌّ بِالكِلَابِ.
وَأَمَّا كَلبُ الصَّيدِ إِذَا وَلَغَ في الإِنَاءِ، فَحُكمُه كَسَائِر الكِلابِ؛ لِأنَّ اللَّفظَ عَامٌّ
وَلَو قَالَ قَائلٌ: كَلبُ الصَّيدِ مَأذونٌ فِيهِ، فَكيفَ يُغسَلُ سَبعَ مَراتٍ إِحدَاهَا بِالتُّرابِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ ﷺ عَامٌّ، وَوُلُوغُ الْكِلَابِ الـهَمَلُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِوُلُوغِ الْكِلَابِ المأْذُونِ فِيهَا.
قَولهُ: «عَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ»، فَهيَ سَبعٌ، وَلكِنْ عَبَّر بِثَمانيةٍ بِاعتِبَارِ أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلى الغَسلَةِ الأُولَى؛ لِأنَّ التُّرابَ زَائدٌ عَنِ الماءِ؛ فَتَكونُ كَأَنَّها غَسلةٌ ثَامِنةٌ.
فِيهِ دَليلٌ عَلَى أنَّ المسَائِلَ مُتعدِّدةٌ:
أَولًا: نَجَاسَةُ الكَلبِ.
وَالثَّاني: أَنَّ نَجاسَتَه مُغلَّظَةٌ.
وَالثَّالِثُ: تَحرِيمُ أَكلِهِ؛ لِأنَّ كُلَّ نَجِسٍ فَهوَ حَرامٌ، لأنَّ النَّجِسَ يَجبُ أَن يَتَطَهرَ الإنسَانُ مِنهُ، وَإذَا كَانَ الشَّيءُ يَجبُ أَن يَتطهَّرَ الإِنسَانُ مِنهُ فَكَيفَ يَجوزُ أَن يُدْخِلَه إِلى جَوفِه، وَالقَاعِدةُ: أَنَّ كُلَّ نَجسٍ حَرامٌ، وَليسَ كُلُّ حَرامٍ نجسًا.
إِذَنِ الكَلبُ حَرامٌ لأَنَّهُ نَجِسٌ وَكُلُّ نَجِسٍ فَهُوَ حَرامٌ، وَليسَ كُلُّ حَرامٍ نَجسًا، بِدَليلِ أَنَّ السُّمَّ حَرامٌ ولَيسَ بِنجِسٍ، وَالدُّخانُ حَرَامٌ وَلَيسَ بِنَجسٍ، وَالشَّيءُ الضَّارُّ حَرَامٌ وَليسَ بِالضَّرُورَةِ نَجسًا، فَكُلُّ شَيءٍ يَضرُّ الإِنسَانَ وَلَو عَلى المَدَى البَعيدِ فَإنَّهُ حَرامٌ؛ لِقَولِه تَعالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:١٩٥]، فَالخَمرُ حَرامٌ وَلَيسَ بِنَجسٍ؛ لِأنَّ الأَدلَّةَ دَلتْ عَلى تَحريمِهِ، وَلَم تَدُلَّ عَلَى نَجَاسَتِه، وَإذَا لَم تَدُلَّ عَلَى نَجَاسَتهِ بَقِيَ عَلَى الأَصلِ وَهُوَ الطَّهارَةُ، لِأنَّ منَ القَواعِدِ المُقَرَّرةِ أَيضًا أَنَّ الأَصلَ في الأَشيَاءِ الحِلُّ والطَّهارَةُ إِلا بِدَليلٍ.
فإِذَا قَالَ قَائِلٌ: ألَيسَ اللَّهُ سَمَّى الخَمرَ رِجسًا في قَولِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة:٩٠]، وَالرِّجسُ هُوَ النَّجسُ؛ لِقَولِ اللَّهِ تعَالَى: ﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام:١٤٥]، وَلِحَدِيثِ أنَسِ بنِ مَالكٍ أنَّ النَّبيَّ ﷺ أَمرَ أَبَا طَلحَةَ يَومَ خَيبَر فَنادَى:
«إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» أَيْ نَجَسٌ،
وَقَد وَصَفَ اللَّهُ الخَمرَ بِأنَّها رِجسٌ، إذَنْ فَهِيَ نجَسٌ.
فَالجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الرِّجْسِيَّةَ التِي وُصِفَ بِها الخَمرُ فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ هِيَ الرِّجسِيةُ المَعنَوِيةُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة:٩٠]، فَهِيَ رِجْسِيَّةٌ مَعنَويَّةٌ عِلمِيَّةٌ، يَعنِي أَنَّهُ لَيسَ رِجسًا حِسِّيًّا، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَخْبرَ في هَذِهِ الرِّجْسِيةِ عَنْ أشَيَاءَ لَيسَتْ رِجْسًا حِسِّيًّا بِالاتِّفَاقِ، قَالَ تعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾ [المائدة:٩٠]، فَهذِهِ الأَربَعةُ وُصِفَتْ بِأنَّها رِجْسٌ، وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ الأَنصَابَ وَالمَيسِرَ وَالأَزلَامَ لَيسَتْ نَجَاسةً حِسيةً، فَكذَلكَ الخَمرُ نَجَاستُها مَعنَويةٌ.
وَدَليلٌ آخَرُ عَلَى طَهارَةِ الخَمرِ طَهَارَةً حِسيَّةً، أَنَّها لَـما نَزلَ تَحرِيمُ الخَمرِ أَرَاقَهَا الصَّحَابَةُ بِالأَسوَاقِ، وَالشَّيءُ النَّجِسُ لَا يَجوزُ أَنْ يُراقَ في الأَسوَاقِ لـمَا فِي ذَلكَ مِنْ أَذيَّةِ المسْلِمينَ وَتَنجِيسِهِمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَلَم يَأمُرهُمُ النَّبيُّ ﷺ بِغَسلِ الأَوَانِي مِنهَا، وَلَو كَانَتْ نَجِسةً لأَمرَهُم بِغَسلِ الأَوَاني مِنهَا.
فَإنْ قَالَ قَائلٌ: الِاسْتِدْلَالُ بِهذَا الحَدِيثِ لَيسَ مُفِيدًا؛ لِأنَّ الخَمرَ الَّذِي كَانَ فِي هَذهِ الأَوَانِي كَانَ قَبلَ نُزُولِ التَّحرِيمِ فَلَمْ يَكُنْ رِجْسًا؟
فَالجَوابُ: أَنَّهُ كَانَ رِجْسًا بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ تَحرِيمِهِ، وَلِـهَذَا لَـمْ يَشرَبْهُ الصَّحَابَةُ ، بَلْ تَجنَّبُوه وَأَراقُوه، ثُمَّ عَلَى فَرضِ أَنَّ هَذا الذِي كَانَ مَوجُودًا حِينَ نُزولِ آيَةِ التَّحرِيمِ لَم يَكُنْ رِجْسًا؛ لِأنهُ سَابِقٌ عَلَى التَّحرِيمِ فَلَدَينَا دَلِيلٌ لَا يَعترِيهِ هَذَا الِاحْتِمالُ، وَثَبتَ في صَحيحِ مُسلِمٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَاوِيَةٍ مِنْ خَمرٍ فَأَهدَاهَا إلَيهِ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهَا حُرِّمَتْ»، فَتَكَلَّمَ أَحدُ الجَالِسِينَ مَعَ الرَّسُولِ يَسَارَه بِحَديثٍ سِرِّيٍّ فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ: «بِمَ سَارَرْتَهُ؟» قَالَ: قُلتُ بِعهَا فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» فَفتَحَ الرَّجلُ الرَّوايَةَ وَأَراقَها بِحضرَةِالنَّبيِّ ﷺ، وَلَم يَأمُرْهُ النَّبِيُّ ﷺ بِغَسلِها وَلَا نَهاهُ عَنْ إِراقَتِهَا في هَذَا المَكَانِ، وَهذَا دَلِيلٌ عَلى الطَّهَارَةِ.
وَلَكِنْ مَعَ ذَلكَ لَسنَا نُهَوِّنُ مِن شَأنِ الخَمْرِ وَقُبحِهِ، بَلْ إِنَّ الخَمْرَ أُمُّ الخَبَائِثِ وَمِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَيَلحَقُ الْعُقلَاءُ بِالمجَانِينِ، ويَترَتَّبُ عَلَيهِ أَفعَالٌ عَظِيمَةٌ مُنْكَرَةٌ، فَيُطَلِّقُ الإِنسَانُ امْرَأتَهُ وَيَحرِقُ أَموَالَه وَيَشتُم وَالِدَيهِ وَرُبَّما يَشتُمُ دِينَهُ وَالعِياذُ بِاللَّهِ؛ لأَنَّهُ قَدْ زَالَ عَقلُهُ بِهذَا الخَمرِ الخَبيثِ، ثُمَّ معَ ذَلكَ يُجلَدُ إذَا شَربَهُ، ثُمَّ يُجلَدُ إذَا عَادَ، ثُمَّ يُجلَدُ إذَا عَادَ ثُمَّ يُقتَلُ إذَا عَادَ في الرَّابِعَةِ، لِحَديثِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاقْتُلُوهُ»، فَأوجَبَ النَّبيُّ ﷺ قَتْلَ شَارِبِ الخَمْرِ في الرَّابِعةِ بَعدَ أَن يُجلَدَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَهَذَا الحَديثُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ بَعضَ أهْلِ العِلمِ قَالَ: إِنَّهُ مَنسُوخٌ، وَدَعْوَى النَّسخِ تَحتَاجُ إِلَى شَرطَينِ أَسَاسِيَّينِ، وَهُمَا:
أَوَّلا: تَعـذُّرُ الجَمعِ بَينَ النَّاسِـخِ وَالمَنْسُـوخِ أَوْ بِالأَصَـحِّ تَعَـذُّرُ الجَمعِ بَينَ النِّصفَينِ.
ثَانيًا: العِلْمُ بِالمتَأَخِّرِ.
ونصه: إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ الله ﷺ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا» قَالَ: لاَ فَسَارَّ إِنْسَانًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «بِمَ سَارَرْتَهُ» فَقَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِى حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» قَالَ: فَفَتَحَ المَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا.
وَكُلُّ هَذَا مَفقُودٌ بِالنسْبَةِ لهَذَا الحَدِيثِ، فَأخَذَ بهذَا الحَديثِ عَلَى سَبيلِ العُمُومِ أَهلُ الظَّاهرِ وَمِنهُمُ ابنُ حَزمٍ الظَّاهِريُّ المشْهُورُ، وَأخَذَ بهِ شَيخُ الإِسلَامِ ابنُ تَيمِيَّةَ، وَلَكنْ عَلَى سَبيلِ التَّفصِيلِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَنتَهِ النَّاسُ عَن شُربِ الخَمرِ إِلا بِقَتلِ الشَّاربِ في الرَّابِعَةِ فَإنَّهُ يُقتَلُ، جَلبًا لِأجْلِ قَطعِ الفَسَادِ وَانتِهَاءِ النَّاسِ عَنهُ.
فَيجِبُ عَلى المسْلِمِينَ مُحَارَبَةُ الخَمرِ بِكلِّ وَسيلَةٍ وَالتَّحذِيرُ مِنهُ وَالبُعدُ عَنهُ لأنَّهُ محرَّمٌ بِالكِتَابِ والسُّنَّةِ وَإِجمَاعِ المسْلِمينَ حَتَّى قَالَ العُلمَاءُ في بَابِ حُكمِ المُرتَدِّ: إِنَّ مَنِ اعتقَدَ حِلَّ الخَمرِ فَهوَ كَافرٌ مُرتَدٌّ عَنِ الإِسلَامِ إِلَّا أنْ يَكونَ نَاشِئًا في بَاديَةٍ بَعيدَةٍ أَو حَدِيثَ عَهدٍ بِإسْلَامٍ لَا يَعرِفُ أَحكَامَ الإسلَامِ فَيُعْذَر.
مِن فَوائِدِ هَذَا الحَدِيثِ:
الفَائِدةُ الأُولَى: أَنَّهُ يَجبُ في تَطهِيرِ مَا وَلَغَ فِيه الكَلبُ أَن يُغسَلَ سَبعَ مَراتٍ أُولَاهنَّ بِالتُّرابِ.
أَمَّا إذَا تَعذَّرَ التُّرابُ أَو كَانَ فِيه مَانعٌ مِنِ استِعمَالِه فَإنهُ يُغسَلُ سَبعَ مَرَّاتٍ بِدُونِ التُّرابِ، وَبدُونِ شَيءٍ يَقُومُ مَقامَ التُّرابِ مِثلَ الصَّابُونِ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَكونُ قَويَّةَ الإِزَالَةِ.
الفَائدَةُ الثَّانيةُ: ظَاهـرُ الحَديثِ أنَّهُ لَا فَـرقَ بَينَ الكَلبِ يُباحُ اقْتِناؤُه، وَالكَلْبِ لَا يُباحُ اقتِنَاؤُه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
الكَلْبُ الذِي يَجوزُ اقْتِناؤُهُ:
١- كَلبُ المَاشيَةِ.
٢- كَلبُ الصَّيدِ.
٣- كِلَابُ الحِرَاسَةِ.
فَهذِهِ ثَلَاثَةُ أَشيَاءَ اسْتَثنَاهَا الشَّرْعُ.
وَكُلُّ إنسَانٍ يَقتَنِي كَلبًا لِغَيرِ الحَاجَةِ فَإنَّهُ يُنتَقَصُ كُلَّ يَومٍ مِن أَجرِه قِيرَاطٌ، وَالقِيرَاطُ مِثلُ الجَبلِ العَظِيمِ، وَمِنَ العَجَبِ وَالْأسفِ أَنَّ بَعضَ الذِينَ أُعجبُوا بِالكُفَّارِ يَقتَنونَ الْكِلابَ بِدُونِ حَاجَةٍ، وَيُنفِقُونَ عَليهَا بِبَذخٍ، وَهَذَا مِما يَدُلُّ عَلى فَسَادِ عُقُولِ بَعضِ النَّاسِ مَعَ نَقصِ دِينِهِمْ أَو جَهلِهِم بِدينِهِم.
وَكُلُّ شَيءٍ مُؤذٍ يُقتَلُ، وَالكَلبُ الأسْوَدُ يُقتَلُ بِكلِّ حَال، وَأمَّا العَقُورُ فَيُقتَلُ أَيضًا، وَكَذَلِكَ الذِي يَأكُلُ غَنمًا يُقتَلُ لأنَّهُ يُؤذِي.
أَمَّا الجَمعُ بَينَ الحَدِيثَينِ فَلَا إِشكَالَ فِيهِ، فَفِي الأُولَى قَالَ: «أُولَاهُنَّ»، وَفِي الثَّاني قَالَ: «الثَّامِنَةُ»، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجوزُ أَن يَكُونَ الترَابُ فِي الأُولَى، وَيَجوزُ أَن يَكُونَ في الآخِرَةِ، كَما يَجوزُ أنْ تَكُونَ مَرَّةُ التُّرابِ في أَيِّ غَسلَةٍ مِنَ الثَّمانِي غَسلَاتٍ، وَلكِنَّ الأَفضَلَ أنْ يَكُونَ في الأُولَى هَكذَا قَالَ العُلماءُ؛ لأنَّهُ إذَا كَانَ في الأُولَى بَقِيَتِ الأَوسَاخُ الأَصلِيَّةُ لَا تَحتَاجُ إلَى تُرابٍ فَلَو أَصَابتْ شَيئًا فَإنَّهُ لَا يَجِبُ أَن يُغسَلَ هَذَا الشَّيْءُ بِالتُّرَابِ.
إِنْ قِيلَ: هَلْ نَجاسَةُ الكَلبِ تَكُونُ في لُعابِه أَم في شَعَرِه أَمْ كِلاهُما؟
ذَهبَ بَعضُ العُلَماءِ إِلى أَنَّ النَّجَاسَةَ المُغَلَّظَةَ في لُعَابِ الكَلْبِ فَقَطْ، لِقَولِهِ: «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ» وَأَنَّ بَقيَّةَ نَجاسَتِهِ كَغَيرِهَا مِنَ النَّجاسَاتِ فَبَولُه وَرَوثُهأ
ونصه: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ قَالَ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلاَ مَاشِيَةٍ وَلاَ أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ».
وَعَرَقُه كَسائِرِ الأَبوَالِ وَالأَروَاثِ وَالعَرَق النَّجِس، وَلَكِّنَّ المشْهُورَ عِندَ عُلمَاءِ الحَنَابِلَةِ أَنَّ بَقيَّةَ نَجاسَاتِه كَالنَّجاسَةِ الحَاصِلَةِ بِرِيقِهِ وَلُعَابِه، وَقَالُوا: إِنَّ نَجَاسَةَ البَوْلِ وَالعَذِرةِ أَقبَحُ مِن نَجَاسَةِ الرِّيقِ، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ الشَّريعَةَ الكَامِلَةَ لَا تُثْبتُ حُكمًا لِشَيءٍ وَتَنفِي هَذَا الحُكْمَ عَن شَيْءٍ أَوْلَى بِهِ مِنهُ، وَهَذَا القِيَاسُ الَّذِي ذَهبَ إِلَيهِ عُلَماءُ الحَنَابِلةِ أَقرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَأَحوَطُ وهُوَ أَنْ تَجرِي جَمِيعَ نَجَاسَاتِ الْكِلَابِ مَجْرَى لُعَابِهِ.
----------------------------
كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، رقم (١٧٢)، ومسلم: كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، رقم (٢٧٩).
كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، رقم (٢٧٩).
كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، رقم (٢٨٠).
كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (١٦١٠).
كتاب الجهاد والسير، باب التكبير عند الحرب رقم (٢٩٩١)، ومسلم: كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية رقم (١٩٤٠).
كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر رقم (١٥٧٩).
أخرجه النسائي، كتاب الأشربة، باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر، رقم (٥٦٦١)، وأحمد (٤ / ٣٨٨، رقم ١٩٦٨٩).
انظر المحلى بالآثار (١٢ / ٣٦٩).
مجموع الفتاوى (٣٢ / ٢٢٦).
خرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد، أو زرع، أو ماشية ونحو ذلك، رقم(١٥٧٥)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الطهارة / باب /حديث رقم:7