الصلاة الوسطى: أهميتها وخطورة تفويتها في الإسلام

أثر القرآن
8 minute read
0

أهميتها وخطورة تفويتها في الإسلام

■ الحديث: عن علي  - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: «مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ».
وفي لفظ لمسلمٍ «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى، صَلاةِ الْعَصْرِ»، ثُمَّ صَلاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

________________________________________

هَذِهِ الصَّلوَاتُ الخَمْسُ أفضلُها صَلَاةُ العَصْرِ؛ لأنَّ اللَّ‍هَ تعالى ذكرَها لخصوصِها حينَ أمرَ بالمُحافَظَةِ عَلَى الصَّلوَاتِ، فقال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّ‍هِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:٢٣٨]، والصَّلَاة الوسطى هي صَلَاةُ العَصْرِ كما يُفيدُ هَذَا الحَدِيثُ.

يوم الخَنْدَقِ هو يوم الأحزاب، وهو إِحْدَى الغزواتِ الشهيرةِ التي غزاها النَّبِيُّ ﷺ، كَانَتْ غزوةُ الخندقِ -وتسمى غزوةَ الأحزابِ- في شَوَّال في السَّنة الخامسةِ من الهجرةِ، حين تحزَّبَتْ قريش ومَن والَاها مِنْ قَبَائلِ العربِ، عَلَى رَسُول الله -صلَّى اللَّ‍هُ علَيْه وعلَى آلِه وسلَّم- ليغْزُونَه في المدينة، فضرب عَلَى المدينة خندقًا بمشورة سَلْمانَ الفارسيِّ بين الحَرَّتَيْن الشَّرقية والغَرْبية، ولم يضرب حول الحَرَّتَيْن خندقًا؛ لأنَّهُ لا يُمْكِن لأحدٍ أنْ يَسِير عَلَى هاتين الحَرَّتين، إذْ إنها تُقَطِّع خِفَاف الإبل، ونِعَال البَشَر، فلم يجعل خندقًا حولـهما.

وبَنو قُرَيْظَةَ: هـم قبيلةٌ من قَبائِلِ الْيَهُـودِ الثَّلاثِ الَّذِين كانـوا في المدينةِ حين هاجرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْها، وصَارَتِ الغَزوة الشَّهيرة العَظِيمَة، التي بقيتْ خمسًا وعشرين

ليلةً، وحُوصِرَتْ فيها المدينةُ، ووُضِعَ علَيْها الخَنْدقُ، وصَارَتْ فيها مشقةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى الصَّحَابَة، قال اللَّ‍هُ تعالى في وصف هَذِهِ الغزوةِ: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب:١٠]، من شدةِ الخَوْفِ، ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّ‍هِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب:١٠-١١]، معركةٌ عَظِيمَةٌ لا يتصورُها الإِنْسَانُ، ولا يدركُها تمامًا إلا مَن كَانَ قد أَصَابَتْه بالفِعل، ولكن الله  مَنَّ عَلَى المُؤمِنينَ، فأرسلَ عَلَى أعدائهم رِيحَ الصَّبَا، وهي الرِّيحُ الشرقيةُ الباردةُ، هَذِهِ الرِّيحُ الشَّدِيدةُ العَظِيمَةُ قلّبتْ خُدورَهم، وقوَّضتْ خِيامَهم، وأَقَضَّتْ مضاجِعَهم، حَتَّى تبادروا يحملونَ رواحلَهم وينصرفونَ، قال اللَّ‍هُ : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّ‍هِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّ‍هُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب:٩-١٠]، ارتفعتْ من الخَوْفِ حَتَّى وصلتْ إِلَى الحنجرةِ، ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّ‍هِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب:١٠-١١]،، وَهُنا جَاء دَوْرُ النِّفاقِ ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّ‍هُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب:١٢].

إنَّ المُنافِقَ عدوٌّ خَفِيٌّ كَمَرضِ السَّرطانِ في الأمة، يَتَحَرَّى الفُرصةَ، إِذَا حَصَلَ أدنى شَيْءٍ يدخلُ معه في طَعْنِ الإِسْلام دَخَلَ.

﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ [الأحزاب:١٣-١٤]، الشَّاهدُ أنَّ اللَّ‍هَ  قال في آخر القصة: ﴿وَرَدَّ اللَّ‍هُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّ‍هُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّ‍هُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب:٢٥].

في إِحْدَى الليالي قال النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» وكانتِ اللَّيْلَةُ باردةً من شدةِ الرِّيحِ، فلم يَقُمْ أحدٌ لأنَّهُم غيرُ قادرينَ، فأعادَها مرةً أُخْرَى، فلم يَقُمْ أحدٌ، فقال لحُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»، قال: فلما أمرني رَسُولُ الله ﷺ لم يَكُنْ بُدٌّ مِنِ امْتِثَالِ أمرِه، فقمتُ، يقول: فلما انصرفتُ من عندِه وإِذَا أنا في جَوٍّ حَارٍّ ولا رِيحَ، وهَذِهِ آيةٌ من آياتِ الله، فذهبَ إِلَى القَوْمِ، يقولُ: فجلستُ أنظرُ ماذا يصنعونَ، فقال أبو سُفيانَ: لِيَنْظُرْ كلُّ وَاحِدٍ منكم جليسَهُ -خاف أن يَكُونَ هُناكَ شَيْءٌ- يقول: فأخذتُ بِيَدَيْ جليسي وقلتُ: منْ أنت؟ قال: أنا فلان، قال: الحَمْدُ للَّ‍هِ أنت فلان، ثم رجعَ بعد أن خبرَ القومَ فأخبرَ النَّبِيَّ ﷺ لكن لـما وصل إِلَى الرَّسُولِ أحسَّ بالبردِ؛ لأنَّ المهمةَ انْتَهَتْ -سُبْحانَ اللَّ‍هِ- يقول: فجئتُ والنَّبِيُّ ﷺ يَتَهَجَّدُ -يُصلِّي- فألقَى عليَّ رداءَه حَتَّى انتهى من صَلَاته.

يجبُ أنْ يحرِصَ الطلبةُ عَلَى معرفة سيرةِ النَّبِيِّ ﷺ لأن معرفةَ السِّيرةِ تَزيدُ الإِيمَانَ، وتزيدُ الإِنْسَانَ مَحبَّةً لِلرَّسُول ﷺ ومَحبَّةً لأَصْحَابِه، وتعطي الإِنْسَانَ خبرةً في الخِطَطِ الحربيةِ؛ لذَلِك أحُثُّكم عَلَى قِراءَة السيرةِ، ومن أحسنِ ما رأيتُ في السيرة (زَاد المعَاد) لابنِ القَيِّمِ  لأنَّهُ جمعَ بين السيرةِ والفِقْهِ، يأخذ خُلاصةً من السيرةِ لا تكادُ، بلْ لم أرَ لـها نظيرًا في الكُتُب التي قرأتُ، ويعطيكَ الحِكَمَ والأَحْكَامَ المُستنبَطةَ من الوَاقِعة والحادثة.

المهمُّ أن هؤُلاءِ القومَ الأحداثَ شغلوا النَّبِيَّ ﷺ ذات يومٍ بل أيام عَنِ الصَّلوَاتِ فقال: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ».

وفي هذا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الصَّلَاة الوسطى هي صَلَاةُ العَصْرِ؛ لتفسيرِ النَّبِيِّ ﷺ، وإِذَا وقع التَّفْسِيرُ من رَسُول الله ﷺ فهو أقوى ما يَكُون من تفسير البشر.

وسُمِّيَتْ صَلَاةُ العَصْرِ الصَّلَاةَ الوسطى لأنَّهَا هي الفُضْلَى، هي أفضلُ الصَّلوَاتِ الخَمْسِ، ولِهَذا وردَ في تركِها أحاديثُ شَدِيدَةٌ، حَتَّى إنَّه جاء في الحَدِيث أنَّ «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ فقدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»، وَهَذَا خطرٌ عَظِيم.

وسُميتْ أيضًا وسطى لأنَّهَا الوسطى من حيثُ العَدَدِ، نبدأ بالصُّبْحِ ثم الظُّهرِ ثم العَصْر وهي الثَّالِثةُ فتَكُون الوسطى من الخَمْس.

وفي هَذَا الحَدِيث دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاء عَلَى الكَافِرِينَ لِقَوْلِه: «مَلأَ اللَّ‍هُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا»، أو قال أجوافَهم، فيَجُوزُ الدُّعَاءُ عَلَى الكَافِرِينَ، لكن عَلَى سَبِيلِ العُمُومِ، أما عَلَى سَبِيلِ الخُصوصِ فإن النَّبِيَّ ﷺ لـما بدأ يدعو عَلَى أبي جهلٍ وغيره من رؤسَاء الكَفَرَةِ، قال اللَّ‍هُ تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ [آل عمران:١٢٨]؛ ولِهَذا كَانَ الْقَوْل الصَّحِيح من أَقْوَال أهل الْعِلْم أنه لا يَجُوزُ لَعْنُ الكَافِرِ المُعَيَّنِ إِذَا كَانَ حَيًّا؛ لأنَّ الله رُبَّما يَهديهِ، فلا يَجُوزُ أن تقولَ اللَّهمَّ الْعَنْ فلانًا من رؤسَاء الكفرةِ؛ لأنَّ اللَّ‍هَ تعالى قادرٌ عَلَى أنْ يُحَوِّلَ رئيسًا في الكفر إِلَى رئيسٍ في الإِيمَانِ.

قَوْله: «مَلَأ اللَّ‍هُ قُبُورَهُمْ» أي المُشْرِكين «وبيُوتَهم» أيضًا، فالقُبُور للأموات، والبُيُوت للأحياء، ثُم علَّل ذَلِك بِقَوْلِه: «كَمَا شَغَلُونَا» فالكاف هنا للتَّعْلِيل كقَوْله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ﴾ [البقرة:١٥١]، وقَوْله: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة:١٩٨]، عَلَى أحد المعْنَييْن.

وقَوْله: «عَنِ الصَّلَاة الْوُسْطَى»، بيَّنها في اللَّفْظ الَّذي سيَأْتِي بعده بأنها صَلَاة العَصْر، وقد اختلف فيها العُلَمَاء عَلَى أَقْوَال كَثِيرَة، ولكن لا قول لأحدٍ بعد رَسُول الله .

والمُراد بـ«الوُسْطَى»: الفُضْلَى، ولَيسَ المُرَاد المتوسطة؛ لأنَّهَا أفضل الصَّلوَات، كما في قَوْلِه تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:١٤٣]، أيْ عدلًا خِيَارًا، ولَيسَ المَعْنَى وسَط بين الأُمَم؛ لأَنَّنا آخر الأُمَم، «حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ».

ففي هذا دَلِيل عَلَى جَوَاز الدُّعَاء عَلَى المُشْرِكين بما يستحقونه، أحياءً كانوا أو أمواتًا؛ لِقَوْلِه: «مَلَأ اللَّ‍هُ قُبُورَهُم وَبُيُوتَهُمْ».

مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: يَنْبَغِي للإِنْسَان أنْ يُعلِّل ما يقول، لَا سِيَّما إِذَا كَانَ في أمرٍ غير مألوف؛ لِقَوْلِه: «كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى».

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: فَضِيلَة صَلَاة العَصْر، حيثُ رأى النَّبيُّ ﷺ أنَّ الشُّغل عنها يبلغ هَذِهِ الأَهَمِّيَّة، وأنها هي الصَّلَاة الوُسْطَى.

• الفَائِدَةُ الثَّالثة من اللَّفْظ الثَّانِي: قضَاء الصَّلَاة بعد خُرُوج وقتها.

وقد اخْتَلَفَ العُلَمَاء  في هَذِهِ القضية بغزوة الخندق، حيثُ إنَّ الرَّسول ﷺ أخَّر الصَّلَاة عَن وَقْتِها ولم يصلِّها صَلَاة خَوْف.

فقال بَعْض أهل الْعِلْم: كَانَ هذا قبل أنْ تُشْرَع صَلَاة الخَوْف، وأنه حين شُرِعَت لا بُدَّ أنْ تُصلَّى في الوَقْت عَلَى أيِّ حال تَكُون؛ لِقَوْلِه تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة:٢٣٩]، وَهَذَا عَلَى أيٍّ حال، سواء مستَقْبِل القِبْلَة أو غير مستقبِل لـها، وفارِّينَ أو كَارِّين.

وقال آخرون: إنَّه كَانَ بعد أنْ شُرعت؛ لأنَّهُ في السَّنَة الخامسة، وصَلَاة الخَوْف شُرِعَت في السَّنة الرَّابعة، وغزوة ذات الرِّقاع كَانَتْ في السَّنَة الرَّابعة، وقد صَلَّاها النَّبيُّ ﷺ حِينَما اشتد الخَوْف، حَتَّى كَانَ الإِنْسَان لا يشعر بما يقول؛ فحِينَئذٍ لا بَأْسأنْ يؤخر الصَّلَاة عَنِ الوَقْت؛ لأنَّهُ قد يَكُون خَوْفه شديدًا بالمرة، بحيثُ لا يدري هل هو في سماءٍ أو في أَرْض، وهل يُصلِّي أو لا يُصلِّي، وفي هَذِهِ الحال لا فَائِدَة من الصَّلَاة في وقتها، فإِذَا اشتدت الحرب اشتدادًا شديدًا فإِنَّه لا حرج أن يؤخِّر الصَّلَاة حَتَّى يهدأ الوَضْع، ولعلَّ هذا أقرب إِلَى الصَّواب؛ لأنَّ الصَّحَابَة  عمِلُوا به في غزواتهم بعد وفاة الرَّسول .

فدلَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أنَّ الصَّلَاة الوسطى هي صَلَاةُ العَصْرِ، وأنه لا يَجُوزُ تَأْخِيرُها إِلَى ما بعد غُرُوبِ الشَّمْسِ.

ودل الحَدِيثُ عَلَى أنه يَجُوزُ في حالِ القتالِ أن تُؤَخَّرَ الصَّلَاةُ عَنِ الوَقْت؛ لأنَّ النَّبِيّ ﷺ قال: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ»، حَتَّى غابتِ الشَّمْسُ، فهل هذا الحكمُ باقٍ أم منسوخٌ؟ يعني: هل يَجُوزُ للمجاهدينَ أن يؤخِّروا الصَّلَاة عند القتال، أم يجب أن يصلوا الصَّلَاةَ في وقتِها ولو في حال القتالِ؟ إن نظرنا إِلَى ظَاهِرِ الحَدِيثِ فبأي الاحْتِمَالَيْن نَقُول، بالأَوَّل أم بالثَّانِي؟ نَقُول بالأول، يعني: أنها تؤخَّرُ، ولكنَّ هذا المدلولَ معارَضٌ بالأحاديث الكَثِيرَة الدَّالةِ عَلَى أنَّ المجاهدينَ يصلونَ الصَّلَاةَ عَلَى أي صِفَة كانت.

ولِهَذا ذهبَ كثيرٌ من العُلَمَاء إِلَى أن هَذَا الحَدِيثَ منسوخٌ، وأنَّ المُسْلِمينَ كانوا في الأَوَّل يؤخِّرونَ الصَّلَاةَ في شدةِ القتالِ عَن وَقْتِها، ثم بعد ذَلِك نُسِخَ هذا الحكمُ، وصار الوَاجِبُ أن يصلُّوا الصَّلَاةَ في وقتها بقَدْرِ ما يَسْتَطِيعونَ، وَهَذَا هو الَّذي علَيْه جُمْهُورُ أهل الْعِلْم.

أما القِلةُ من العُلَمَاء، فقَالُوا: إِذَا اشتدَ القتالُ حَتَّى لا يتمكَّنَ المقاتلُ من أن يشعرَ بما يقولُ ويفعلُ، فحِينَئذٍ يَجُوزُ أن يؤخِّرَ الصَّلَاة عَن وَقْتِها.

هنا سؤال -قبل أن نبدأ-: لو أن رجلًا أخَّرَ الصَّلَاةَ عن وقتِها دون عذر ثم صَلَّاها، فهل تُقْبَلُ منه؟

الجَوَاب: لا تُقْبَلُ منه إِذَا أخَّرها عَن وَقْتِها بدون عُذْرٍ، ولو صلَّى ألفَ مرةٍ، ولِهَذا كَانَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ من أَقْوَال العُلَمَاء، أنَّ الإِنْسَان إِذَا تعمَّد تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَن وَقْتِها، ثم صَلَّاها، فإِنَّها لا تُقْبَلُ؛ لأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»؛ أي: مردودٌ علَيْه.

ومن المَعْلُومِ أنَّ الإِنْسَانَ إِذَا أخّرَ الصَّلَاةَ عن وقتِها لغيرِ عُذْرٍ، فقد عمِل عملًا لَيسَ علَيْه أمر الله ورَسُوله، فيَكُونُ مَردودًا، أما لو أخَّرَ الصَّلَاة لعذرٍ، مثلا نسيَ أن يُصلِّيَ، ولما خرج الوَقْت ذكر أنه لم يُصَلِّ، فحِينَئَذٍ يُصلِّيها، كذَلِك لو نام ولَيسَ عنده من يوقظُه، ولَيسَ عنده وسيلةٌ يستيقظُ بها حَتَّى خرج الوَقْتُ، ثم استيقظَ؛ فإِنَّه يُصلِّيها وتُقْبَلُ منه؛ لأنَّهُ أخرَّها لعذرٍ.

----------------------------

كتاب الدعوات، باب الدُّعاء على المُشْرِكين، رقم (٦٠٣٣).

كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب الدَّلِيل لمن قال الصَّلاة الوسطى هي صلاة العصر، رقم (٦٢٧).

كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، رقم (١٧٨٨).

كتاب مواقيت الصَّلاة، باب إثم من ترك العصر، رقم (٥٢٨)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:54

Today | 10, May 2025