درس من الخندق: تأجيل الصلاة وصلاة العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم

أثر القرآن
0

تأجيل الصلاة وصلاة العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث: عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنهما -: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا». قَالَ: فَقُمْنَا إلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ، وَتَوَضَّانَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ، بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ» ].

■ حكم الحديث: متفق عليه

■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

________________________________________

هَذَا الحَدِيثُ شبيهٌ بحـديثِ عليِّ بن أبي طالب السَّابِـق، وحـديث عبد الله ابن عمر  وهو أن عُمَرَ حكى مثلَ ما حكاهُ ابنُ عُمَرَ، أنَّ النَّبِيّ ﷺ حبسهُ المشركونَ عنْ صَلَاةِ العَصْرِ ولم يصلِّها إلا بعد غُرُوب الشَّمْس، لكنَّ في هَذَا الحَدِيث

زيادةً، وهي أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صلَّى العَصْرَ أولًا ثم صلَّى المَغْرِبَ ثانيًا، فنستفيدُ منه الترتيبَ، أي أنَّ الإِنْسَانَ إِذَا كَانَ علَيْه فائتة فإِنَّه يبدأ بها قبل الحاضِرةِ، وإِذَا كَانَ علَيْه عدةُ صَلَواتٍ فائتةٍ فإِنَّه يرتبُها، فمثلًا لو نام الإِنْسَانُ عن صَلَاةِ يومٍ كَامِل، عَنِ الظُّهرِ والعَصْرِ والمَغْرِبِ والْعِشَاءِ، ثم استيقظَ، فإِنَّه يبدأُ بالظُّهرِ ثم العَصْر، ثم المَغْرِب، ثم الْعِشَاء، فلو أخلَّ بِهَذَا الترتيبِ فإن كَانَ عالمًا بوُجُوب الترتيبِ، فإِنَّه لا يصحُّ منه إلا الصَّلَاةُ الأُولى فقط، وإن كَانَ غيرَ عالمٍ، فإِنَّه يصحُّ ولو كَانَ غيرَ مرتبٍ.

مِثَال ذَلِك: رجلٌ نامَ عَنِ الصَّلوَاتِ الخَمْس أو الأَرْبَع ثم استيقظَ فصلَّى الْعِشَاءَ ثم المَغْرِبَ ثم العَصْرَ ثم الظهرَ، إن كَانَ عالمًا بوُجُوب الترتيبِ فالَّذِي يصحُّ منه الظُّهرُ، وإن كَانَ جاهلًا فإن جميعَ الصَّلوَاتِ الأَرْبَع تصحُّ، وكذَلِك لو كَانَ ناسيًا، فصلَّى مثلًا الْعِشَاء ناسيًا أن علَيْه المَغْرِبَ والعَصْرَ والظُّهرَ فإن صَلَاتَه تصحُّ؛ لعُمُومِ قَوْله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:٢٨٦].

وقَوْله في هَذَا الحَدِيث: «فقمنا إِلَى بَطْحَانَ»، وبَطْحَان وادٍ معروفٌ في المدينة.

مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: جَوَاز سَبِّ الكُفَّار؛ لأنَّ عُمَرَ سبَّهُم وأقره النَّبيُّ ﷺ، بل إنَّ الرَّسول دعَا علَيْهم كما سبق.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: جَوَاز أنْ يَحْلِفَ الإِنْسَان دون أنْ يُستَحْلَفَ؛ لِقَوْلِه: «وَاللَّ‍هِ مَا صَلَّيْتُهَا»، والقَائِل هو الرَّسول .

• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: يَنْبَغِي للإِنْسَان أنْ يُسَلِّيَ غيره، فيذكُرَ له الفِعْل الَّذي كَانَ نادمًا علَيْه وأنه حصل مثله؛ لأنَّ في تسليته طُمَأْنِينَةً لخاطِره، وتسهيلًا للمصيبة علَيْه؛ لِقَوْلِ الرَّسول ﷺ: «وَاللَّ‍هِ مَا صَلَّيْتُهَا».

• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: التَّرتيب بين الصَّلوَات؛ لأنَّهُ صلَّى العَصْر، ثُم المَغْرِب.

وقد ورد في الحَدِيث السَّابق أنه صلَّى قبل أن تغربَ الشَّمْس، ولا معارضة؛ لأنَّ أيام الخندق كَانَتْ كَثِيرَةً، فرُبَّما يَكُون في يومٍ صلَّاها قبل الغُرُوب، وفي يوم آخر صَلَّاها بعد الغُرُوب.

• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ الفائتة تُصَلَّى جَماعَةً؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّهُم توضؤوا وصلَّوا جميعًا، إذْ مِن المُسْتبعَد أن يتوضؤوا جميعًا مِن الوادي ثُم يُصلِّي كل وَاحِد وحْدَه؛ وعلى هذا فيُشْرَعُ في قضاء الفوائت أنْ تَكُونَ جَماعَةً، وَهَذَا أيضًا ثبتَتْ به السُّنة ثبوتًا لا شَكَّ فيه، كما في حديث أبي قَتَادَةَ  حين ناموا عن صلَاة الصُّبح فإِنَّهم صَلَّوْها جَماعَةً.

ولكن هل تُصَلَّى جهرًا إِذَا كَانَتْ جَهْريَّةً، أو إنْ قضاها في النَّهارِ قرأ بها سِرًّا، وإن قضاها في اللَّيل قرأ بها جَهْرًا؟ الصَّحِيحُ أنها حَسَبَ الصَّلَاةِ المقضِيَّةِ، فإن كَانَ يقضي صَلَاةً جَهْريَّةً جهرَ في القضاء، وإن كَانَ يقضي صَلَاةً سريةً أسَرَّ بالقضاء، فإِذَا نام عنْ صَلَاةِ العَصْرِ ولم يستيقظْ إلا بعد غُرُوب الشَّمْس، وصَلَّاها جَماعَةً، فإِنَّه يُسِرُّ بها، ولو كَانَ الأَمْر بالعكس، نام عن صَلَاة الْفَجْرِ ولم يستيقظْ إلا بعد طُلُوع الشَّمْس وكان معه جَماعَةٌ، وصلوا الصَّلَاة فإِنَّهم يجهرونَ بها، هَكَذا جاءتِ السُّنةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حين ناموا عن صَلَاة الْفَجْرِ في بَعْض أسفاره فاستيقظوا بحَرِّ الشَّمْس، فأمرهم النَّبِيُّ  أن يصلوا الصَّلَاة، فأمرَ بلالًا فأذَّنَ، ثم صلوا سُنَّةَ الْفَجْرِ، ثم صلوا الْفَجْرَ يجهرُ بها النَّبِيُّ ﷺ فدلَّ ذَلِك عَلَى أنَّ القضاءَ مثل الأداءِ، ولِهَذا من العباراتِ المقربةِ عند الفُقَهَاء: القَضَاءُ يحكي الأداءَ، أي يُشابِهُه ويُماثِلُه.

إِذَا جاء شَخْصٌ وقد فاتَتْه صَلَاةُ العَصْر ووجدَ أناسًا يصلونَ صَلَاة المَغْرِب فلْيَدْخُلْ معهم بنِيَّةِ العَصْر، فإِذَا صلَّى ثلاثًا وسلَّمَ الْإِمَامُ، قامَ وأتى بالرَّابِعةِ.

إِذَا دخلَ جَماعَةٌ والْإِمَام يُصلِّي صَلَاة التراويحِ، فهل يدخلونَ مع الْإِمَام أم يصلونَ وحدَهم جَماعَةً؟

نَقُول: إِذَا كَانَ المَسْجِدُ ضَيِّقًا يظهرُ فيه التصادمُ بين الجماعتَيْن؛ فإن الأَولى أن يدخلوا مع الْإِمَام، وإن كَانَ المَسْجِدُ واسعًا، بحيثُ يبعدونَ، ولا يظهرُ تصادمٌ بين صَلَاتهم وصَلَاة الْإِمَام؛ فإِنَّهم يصلونَ جَماعَةً أولًا، يعني: صَلَاة الْفَرِيضَةِ أَوَّل الجَمَاعَة، ثم يدخلونَ مع الْإِمَام.

ما السَّببُ في النَّهيِ عَنِ الصَّلَاة بعد الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وبعد العَصْر؟ الحِكْمَةُ في هذا أنَّ المُشْرِكين كانوا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ تحيةً وتوديعًا.

متى يَسْجُدُونَ لـها تحيةً؟

الجَوَاب: يَسْجُدُونَ لـها تحيةً عند طُلُوع الشَّمْس، وتوديعًا عند غُرُوبها.

فنهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الصَّلَاة التي لَيسَ لـها سببٌ في هذا الوَقْت؛ لأن ذَلِك فيه نوعُ مُشَابَهةٍ للمشركينَ.

مسألة: قُلْنا إِذَا خافَ أنْ تَفُوتَه صَلَاة العَصْر ودخل علَيْهم وهم في صَلَاة المَغْرِب فقد يفوته التَّرتيب؛ فماذا علَيْه؟

الجَوَاب: الصَّحيح أنه لا يُمْكِن أنْ يخافَ ذَلِك؛ لأنَّ الْقَوْل الرَّاجح أنه يَصِحُّ أن يُصلِّيَ الصَّلَاة خلف مَن يُصلِّي صَلَاةً أُخْرَى، أيْ يُصَلِّي العَصْر معهم وهُم يُصلُّون المَغْرِب، وإِذَا سلَّم الْإِمَام أتَى بما بَقِيَ علَيْه.

مسألة: أَحْيانًا يجد الإِنْسَان خُرُوجَ ريحٍ، ويحاول أنْ يُخْرِجَه ولكن لا يَسْتَطِيع وهو متوضئٌ، فهل يَبْطُلُ وُضُوءُه؟

الجَوَاب: لَا، فكل مُفسدِات العِبَادات، إنْ هَمَّ الإِنْسَانُ بها لكن لم يَفْعَلْها؛ فإِنَّها لا تُبْطِل.

ومِثَال ذَلِك: شَخْصٌ يُصلِّي واستأذنَ علَيْه رجُلٌ مِن البَاب، وهَمَّ أنْ يقول له تَفضَّلْ، لكنه امتنعَ؛ فلَا تَبْطُل صَلَاتُه.

مِثَال آخر: شَخْصٌ صائم هَمَّ أنْ يَأكل لكنَّه لم يَفْسَخ نِيَّة الصَّوم، ولكن تذكَّر أنَّ المَغْرِب قريبٌ؛ فلا يَبطُل صومُه.

فجميع المحظورات لا تَبْطُلُ بالعَزِيمَة عَلَى فِعْلِهَا حَتَّى يفعلَها صاحبُها، وهَذِهِ قَاعِدَة مِن أهَمِّ القَوَاعِد، ما لم يكن هذا الشَّيْء مَرْبُوطًا بالنِّية وينوِي الخُرُوجَ منه.

مسألة: الَّذِين يَقولُون بعدم الصَّلَاة مُطْلقًا بعد الصُّبح والعَصْر، يَسْتَدِلُّون بقول الرَّسول ﷺ: «لَا صلَاةَ»؛ لأنَّهَا عَلَى العُمُوم، ولكِنكُم اسْتَثْنَيْتُم بالحَدِيث الخاص؛ فيَقولُون إنَّ الحَدِيث العام لَا فَائِدَة منه؟

الجَوَاب: نَقُول هذا عامٌّ أُرِيدَ به الخُصوص مِن الأَصْل، لأنَّ العام يُرادُ به الخُصوص، وَهَذَا موجود في اللُّغة الْعَرَبِيَّة، وفي القُرْآن قَوْله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران:١٧٣]، النَّاس كُلُّهم قَالُوا لـهم، وهل كل النَّاس جمَعُوا لـهم؟

! بالطَّبع لا، ولكنه يُقال عَلَى العُمُوم.

ونقول الأَصْل أنَّ العُمُوم غير وارد، وإِنَّما ورد في الحَدِيث أنْ لا تَطَوُّعَ بلا سببٍ؛ فيَكُون عامًّا أُرِيدَ به الخاص، ثُم إنَّ العُلَمَاء يستعملونَ مثل هذا؛ مثل مَن قَـالُوا بعدم جَوَاز قضَاء رَمَضَانَ عَنِ المَيِّت، فقد حمَلُوا قَـوْله :

«مَنْ مَاتَ وعلَيْهِ صِيَامٌ؛ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، عَلَى النَّذْر، مع أنَّ النَّذْر بالنِّسبة لصيام الفَرض أكثر.

فعلَى كل حال، قَـوْله: «لَا صَـلَاةَ بحَضْرَةِ طَعَامٍ» إنْ حملناها عَلَى العُمُوم واستَثْنَيْنَا ما دلَّت السُّنة عَلَى استثنائه فلا غَرْوَ في ذَلِك، وكم مِن لفظٍ دلَّ عَلَى العُمُوم وحمله النَّاس عَلَى أقَـلِّ ما يَكُـون، وإنْ حملناه عَلَى العـام الَّذي أُرِيدَ بـه الخصوص فلا غَرابةَ -أيضًا-.

وهل يأثمُ المُصلِّي إِذَا تهاونَ في طَرْدِ الوَسواس؟

الجَوَاب: لَا نُؤثِّمه إِذَا غلبَهُ، بعكس مَن اسْتَرْسَل، وإِذَا ضربنا مثلًا بالرِّياء وهو مِن أعظم ما يَكُون، إِذَا غلب الإِنْسَان وعجز عن طرده ما يضره.

وُحكِيَ أنَّ وَاحِدًا مِن النَّاس كَانَ في سَفَرٍ وصلَّى خلف إِمَام، فغَلَط الْإِمَام، فقال النَّاس: «سُبْحانَ اللَّ‍هِ»؛ بناءً عَلَى غَلَطِه، فقال الرَّجُل: «لَيسَ سُبْحانَ اللَّ‍هِ»! وهو في الحقيقة لا يريدُ نفي تَنْزِيه الله ، ولا يعرف مثل هَذِهِ المسَائل، لكنه قصَد أنَّ الْإِمَام لم يَغْلَطْ، فلما انْتَهَت الصَّلَاة قال له أميرُ الرَّكْب: «لماذا قلت هذا، أمَا عَلِمْتَ أنه كُفْرٌ؟!» فقال الرَّجُل: «أعوذ بالله، إنَّما قصدي أنَّ الْإِمَام لم يغلطْ»، فقال الأمير: «سبب أنَّ النَّاس قَالُوا سُبْحانَ اللَّ‍هِ»، فقال الرَّجُل: «يا أمير، أنا في العَادَة إِذَا كبَّرت للإِحْرَام أتخيل أني قد جهَّزتُ احتياجاتي ثُم مشيت المرحلة الأولى إِلَى المكان الفلاني؛ فأعتبرها الرَّكعة الأولى، وأما المرحلة الثَّانِية إِلَى المكان الفلاني، والمرحلة الثَّالثة إِلَى المكان الفلاني قبل أن أصلَ البلد، وهؤُلاءِ سبَّحواقبل وصولنا للبلد؛ فمعناه عندي أنَّ الْإِمَام لم يغلط»! فقال الأمير: «العُذْرُ أَقْبَحُ مِنَ الفِعْلِ».

إذن، إذَا استَرْسَل الإِنْسَان؛ فَهَذَا هو الممنوع، أمَّا إذَا غُلِبَ فلا شَيْءَ، ولِهَذا تجد الإِنْسَان يحاول أنْ يُقْبِلَ علَى صَلَاته، وفي أقَلَّ مِن ثانيتَيْن أو ثلاث إلَّا ويَصْرفه الشَّيطان.

----------------------------

كتاب مواقيت الصَّلاة، باب من صلى بالنَّاس جماعة بعد ذهاب الوقت، رقم (٥٧١).

كتاب مواقيت الصَّلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، رقم (٥٧٠).

كتاب الصوم، باب من مات وعلَيْه صوم، رقم (١٨٥١)، ومسلم: كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عَنِ الميت، رقم (١١٤٧)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:61

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)