■ الحديث: وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «لا صَلاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ».
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉
________________________________________
قَوْله: «لَا صَلَاةَ» نفيٌ للكمال.
وقبل الدُّخول في شرح الحَدِيث هنا قَاعِدَة مهمة لا بُدَّ منها، وهي: «الأَصْل في النَّفي أنه نفي للوجود»، فإِذَا قيل: «لا كذا» أيْ: لَيسَ موجودًا، (فلا صَلَاةَ)
تعني ليست موجودة، و(لا قائمة في الْبَيْت) تعني ليست موجودة، فإنْ لم يُمْكن وكان الشَّيْء موجودًا بالْفِعْل فيَكُون النَّفي للصِّحة.
ولفظة الحَدِيث هي نفي للوجود الشَّرعي، لا الحسي، فإنْ لم يُمْكن حمْلُه عَلَى نفي الوجود الشَّرعي وهو نفي الصِّحة؛ حُمِلَ علَى نَفْي الكمَال.
فلو قُلْنا: «لا خالقَ إلا الله»، فَهَذَا نفي للوجود.
ولو قُلْنا: «لا صَلَاةَ بغير وُضُوء» فهو نفي شَرْط وصِحَّة الصَّلَاة؛ لفوات شرطٍ مِن شُرُوطها، ونفي الشَّرط هو نفيٌ للوجود الشَّرعي.
ولو قُلْنا: «لا صَلَاةَ بحضرة طعام» فَهَذَا نفيٌ للكمال؛ لأنَّ الإِنْسَان رُبَّما يُصلِّي وطعامه حَاضِر، لكن لا يشتغل بذَلِك اشتغالًا كثيرًا يلهيه عَنِ الصَّلَاة.
وقَوْله: «بِحَضْرَةِ طَعَامٍ»، هل المُراد بحضرة طعام يشتهيه الإِنْسَان مما هو حلال أو مُطْلقًا؟ نقول: إنْ كَانَ مما يشتهيه فَهَذَا مشكلة؛ لأنَّهُ لن يُصَلِّي أبدًا ما دام الطَّعام في الْبَيْت.
وقولنا: «مما هو حلال»؛ لئلَّا يَرِد علَيْنا إِنْسَانٌ صائم في رمَضان، وبعدما أُحْضِر الفطور، وقد استيقظ بعد نوم ولم يُصَلِّ صَلَاة العَصْر فقد لا يُصلِّي وينتظر حَتَّى يفطر؛ فهنا لَيسَ حلالًا، لأنَّهُ لا فَائِدَة مِن تَأْخِير الصَّلَاة في هذا التَّوقيت.
إذن، بحضرة طعام هذا المُطْلق مقيَّد بما إِذَا كَانَتِ النَّفس تَطُوق إِلَيْه.
قَوْله: «ولَا وَهُو يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ»، أي المُصَلِّي يُدافِعُه الأَخْبَثَانِ، وهُما البَوْل والغَائِط، وعبَّر بـ«يُدَافِعُه» كأنَّهُما في حال مُصَارَعة قد شدَّا علَيْه في الحَصْر وهو يدافع، وَهَذَا أيضًا لا صَلَاةَ له، لكن لا صَلَاة كَامِلة، وصَلَاته صَحِيحَة.
مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:
• الفَائِدَةُ الأُولَى: نَهْـي الإِنْسَان عَنِ الصَّـلَاة بحضرة الطَّعام بالشَّرْطَيْن اللَّذَيْن ذكرْنَاهُما؛ لِقَوْلِه: «لَا صَلَاةَ».
• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: مُراعَاة الخُشُوع؛ لأنَّهُ أهَمُّ ما يَكُونُ في الصَّلَاة.
مَسْأَلَة:
الخُشُوع هو: حُضُور الْقَلْب، وعدم الالتفات لشَيْءٍ.
وذهب بَعْض أهل الْعِلْم إِلَى وُجُوبه، وأنَّ الإِنْسَان إِذَا اسْتَرْسَل مع الوسَاوس حَتَّى غلبَتْ عَلَى صَلَاته كلِّها أو أكثرها فصلَاتُه بَاطِلة؛ لأنَّ النُّصُوص كلها تدل عَلَى أَهَمِّيَّة الخُشُوع في الصَّلَاة، وإلى هذا يميل شيخ الإِسْلام في كتابه (القَوَاعِد النُّورانية)، وقد سَاقَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً يشير بها إِلَى الوُجُوب.
وفي بُطـلان الصَّـلَاة بغير خُشُـوع نظـرٌ؛ لأنَّهُ قـد يَغْلِب عَلَى الإِنْسَان شَيْءٌ لا يتمَكَّن مِن التَّخَلُّص منه.
وذهب آخرون إلَى عدم وُجُوبه، وأنَّ الإِنْسَان لو بقي يفكر في صَلَاته مِن أوَّلها إِلَى آخرها فصَلَاته صَحِيحَة.
واستدلوا بدَلِيلين، عامٌّ وخاص:
العامُّ: قَوْله ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِه أَنفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»، وَهَذَا عامٌّ.
الخاصُّ: وهـو «أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُـوَ فِي صَلَاتِهِ فَيَقُـولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا»، وظَاهِره أنه لو غُلِبَ عَلَى الصَّلَاة أو أكثرها فإنَّ صَلَاته صَحِيحَة.
مسألة: هل يجبُ عَلَى الإِنْسَان أن يدافِعَ هَذِهِ الوَسَاوس؟
الجَوَاب: هذا ينبني عَلَى قـول أكثرِ العُلَـمَاء أنـه لا يجبُ علَيْه، وأنَّ الإِنْسَانَ لـو استرسل لم تَبْطُلْ صَلَاته ولا يأثَم.
والَّذِي يظهر لي: أنَّ الخُشُوعَ وَاجِبٌ، لكن يتوقف الإِنْسَان في كونه شرطًا لصِحَّة الصَّلَاة، أمَّا أنْ نَقُول للإِنْسَان افعل ما شئتَ من الوَسَاوس؛ فَهَذَا فيه نظر، فأين الصَّلَاة إذن؟
! ستَكُون عَادَة، فَيُكبِّر عَلَى العَادَة، ويقرأ عَلَى العَادَة، ويركعُ عَلَى العَادَة، وقد لا يُحِسُّ بنفسه إلَّا وهو في السُّجُود، أو إلا وهو قد سلَّم، لكن إنْ كَانَ خَاشِعًا فهو يَعي ما يفعل؛ فعلى كُلّ حالٍ الوَاجِبُ عَلَى الإِنْسَان أن يخشعَ بقدر المُستطاع.
• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ الإِنْسَان إذَا كَانَ يدافِعه الأَخْبَثَانِ فإِنَّه يقضي حاجتَه أولًا، ثُم يُصلِّي ثانيًا.
• الفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنه إِذَا حس بدون مدافعة فلا حرَجَ أنْ يُصلِّيَ، والضَّابط في هذا ما أثَّر عَلَى الخُشوع، لكن لو تخلَّى نهائيًّا كَانَ أفضلَ.
• الفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: مُراعاة حِفظ الصِّحة.
وجه ذَلِك: أنَّ النَّهيَ عَنِ الصَّلَاة في مدافعة الأَخْبَثَيْنِ يُراعَى فيه أمران:
الأَمْر الأَوَّل: إكمال الصَّلَاة والخُشُوع فيها.
الأَمْر الثَّانِي: صحَّة الإِنْسَان؛ لأن حَبْسَ البَوْل أو الغَائِط مُضِرٌّ بالإِنْسَان، وإنْ كَانَ لا يُحِسُّ به في الوَقْت الحاضِر، لكن في المستقبل يضرُّ به بلا شك؛ لأن هذا يوجِد التَّضييق عَلَى الأماكن، ورُبَّما يُحْدِث جروحًا في الدَّاخل أو قروحًا؛ لأن هذا -بإذن الله- أذًى كما هو معروف، فإِذَا انحبَسَ في مكانٍ أكثر مما يَكُونُ في العَادَة فإِنَّه يضر هذا المكان.
• الفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: ألَّا يُصلِّيَ وهو يُدافِع الرِّيح، قياسًا عَلَى الأَخْبَثَيْنِ؛ لأنَّ العِلَّة وَاحِدَة.
• الفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: ألَّا يُصَلِّيَ وفيه حسَاسيَّة وحكة شَدِيدَة حَتَّى يُبَرِّدَها بدِهانٍ أو ماء؛ قياسًا عَلَى مدافعة الأَخْبَثَيْنِ.
فإن قال قَائِل: إِذَا كَانَتِ الحسَاسية ليست شَدِيدَةً فهل الأوْلَى أن يَتَصَبَّرَ علَيْها، أو أنْ يَحُكَّها مع الحَرَكَة؟
قُلْنا: الصَّواب أنْ يَحُكَّها حتَّى تَبْرُدَ علَيْه، ثم يُقْبِل عَلَى صَلَاته.
----------------------------
كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب كراهة الصَّلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، رقم (٥٦٠).
كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون، رقم (٤٩٦٨).
كتاب السَّهْو، باب عدد التسبيح بعد التسليم، رقم (١٣٤٨)..
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:58