"فضل صلاة الجماعة على الصلاة الفردية: الحديث النبوي الشريف"

أثر القرآن
0

الحديث النبوي الشريف"

■ الحديث: عن عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنهما -، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنِ صَلاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً».

■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈الشيخ ابن عثيمين〉

________________________________________

قد يقول قَائِلٌ: هَذِهِ الترجمةُ متناقضةٌ، كيف يقول: بابُ فضل، ثم: وُجُوب؟ والمعروف أنَّ الفضلَ للاسْتِحْبَابِ، والاسْتِحْبَابُ مُنافٍ للوُجُوبِ، فلو قال: إن المؤلِّف أَرَاد بفَضْل أي: ثَواب الجَمَاعَةِ، والثَّوابُ لا ينافي الوُجُوبَ.

وأما قَوْله: «وُجُوبها»، فيريدُ به أن صَلَاةَ الجَمَاعَة وَاجِبَةٌ عَلَى الرِّجَالِ لا عَلَى النِّسَاءِ، والوَاجِبُ هو الَّذي إِذَا تركَه الإِنْسَانُ استحقَ العقوبةَ، وإِذَا فعلَه استحقَ المثوبةَ.

وهُنَا سؤال: أيهما أفضلُ الوَاجِبُ أم التطوعُ؟

الجَوَاب: الوَاجِبُ أَحَبُّ إِلَى الله من التطوعِ، والدَّلِيلُ: ما جاء في الحَدِيثِ القُدُسِيِّ أنَّ الله تعالى قال: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ».

والتَّعليلُ: أنه لولا أهميتُه ما أوجبَه اللَّ‍هُ؛ لأنَّ الإيجابَ تكليفٌ وإلزامٌ، فلولا أنه وُجِدَ ما كُلِّفَ العِبَادُ ولا أُلزموا به.

الجَمَاعَة بالتَّعْرِيف الشَّرعي هنا تُطْلَق عَلَى اثْنَيْن فصاعدًا، أي الرَّجُل مع الرَّجُل يقال عنهما جَماعَة، بينما الجَمَاعَةُ في اللُّغة الْعَرَبِيَّة تَكُون ثَلاثَةً فأكثر، وقَوْله: «صَلَاةُ الجمَاعَة» مِن باب إضافة الشَّيْء إِلَى نوعه، أيِ الصَّلَاة الَّتي تَكُون جَماعَةً، «وَوُجُوبها»، أيْ: باب وُجُوبِها، فبدَأ بالفضل؛ حثًّا للنُّفوس، وذكَرَ الوُجوب تحذيرًا مِن الإضاعَة، فصَلَاة الجَمَاعَة فيها فضلٌ، وتركُها فيه وِزْرٌ؛ لأنَّهَا مِن الوَاجِبَات، وقد اتفق العُلَمَاء

 علَى جميع أصناف مَذاهبهم أنَّها مِن الأُمُور المَشْرُوعَة، وأنها مِن أجَلِّ الطَّاعات، وأفْضَلِ القُربَات، ولـم يَقُـل أحدٌ منهم إنَّ ترْكَها وفِعْلَها سـواء، لكـن اخْتِلَافهم في وُجوبِها وعدمِه عَلَى النَّحو التَّالي:

الْقَوْل الأَوَّل: ذهب قومٌ مِن العُلَمَاء أنَّ الجَمَاعَة شرطٌ لصِحَّة الصَّلَاة، وأنَّ مَن صلَّى مُنْفَرِدًا بلا عُذْر؛ فصَلَاتُه بَاطِلةٌ.

وعلَّلوا ذَلِك بوُجُوبها، وتَرْكُ الوَاجِب عمدًا مُبْطِلٌ للعِبادَة، كما لو تركَ الإِنْسَان التَّشَهُّدَ عمدًا فإنَّ صَلَاتَه تَبْطُل، وإلى هذا ذهب شيخ الإِسْلام ابن تَيْمِية، وابن عَقِيل مِن أَصْحَاب الْإِمَام أحمد، وهو روايةٌ عَنِ الْإِمَام أحمد -رحمهم الله جميعًا-؛ فصَلَاة الإِنْسَان في بيته بلا عُذر مُنْفَرِدًا بَاطِلةٌ، وَهَذَا أشَدُّ المذاهب.

الْقَوْل الثَّانِي: أنها فَـرضُ عَيْنٍ، أيْ وَاجِبَةٌ وُجُوبًا عينِيًّا عَلَى كُلِّ ذَكَـر، وإذَا صلَّى مُنْفَرِدًا فصَلَاتُه صَحِيحَة مع الإثْم، وَهَذَا هو الَّذي ذهب إِلَيْه المؤلِّف بِقَوْلِه: «وَوُجُوبها»، وهو المشهور مِن مذهب الْإِمَام أحمد ، ولا يَجُوز أن يُتَخَلَّفَ عنها، ولكـن مَن تَرَكَها بلا عُـذر فصَلَاتُه صَحِيحَةٌ، وَهَذَا الْقَـوْل هـو الرَّاجح كما سيتَبيَّنُ مِن الحدِيثَيْن التَّالِيَيْن.

الْقَوْل الثَّالث: أنها فَرضُ كِفَايَة إِذَا قام بها مَن يكفي وأُقِيمَت في المَسَاجِد، فهي علَى مَن سِوَى الَّذِين أقاموها سُنَّةٌ وليست بوَاجِبَةٍ، وَهَذَا الْقَوْل وإنْ كَانَ له وَجْهٌ مِن النَّظَر لكنه ضَعِيفٌ؛ لـما سيَأْتِي في الأحاديث -إن شاء الله-.

الْقَوْل الرَّابع: أنَّها سُنة مؤكَّدة، وَهَذَا مذهب أبي حنيفة ، لكن مع ذَلِك يقول إنَّ تاركَ السُّنة المؤكَّدة آثِمٌ؛ وعلَيْهِ فلَا فرْقَ بينه وبين مَن يقول إنها فَرضُ عينٍ؛ لأنَّهُ إِذَا كَانَ تاركُ السُّنة آثمًا فهُوَ هُو تارك الوَاجِب.

الْقَوْل الخامس: أنَّها سُنة لَا يأثم الإِنْسَان بتركها، وَهَذَا أضعفُ الْأَقْوَال؛ لأنَّ النُّصُوص تَرُدُّ علَيْه.

والْقَوْل الرَّاجح: أنها فَرْضُ عَيْنٍ، لكن تَصِحُّ الصَّلَاةُ بدونها مع الإثم، وَهَذَا هو الفرق بينه وبين الْقَوْل بأنها شرطٌ؛ لأنَّ الْقَوْل بأنها شرط يَقْتَضي إِذَا تركها الإِنْسَان بلا عذر فصَلَاته بَاطِلة، وسيَأْتِي معنا الدَّليل.

فإن قال قَائِل: ما هو العدد الَّذي تنعقدُ به الجَمَاعَة؟

والجَوَاب: أنها تنعقدُ باثْنَيْن فأكثر، والدَّليل قَوْله ﷺ: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»، فجعلَ الفردَ وهو الوَاحِد مقابل الجَمَاعَة، ولأنَّ الرَّسول صلَّى بابنِ عَبَّاسٍ وحده، وابن مَسْعُودٍ وحُذَيْفة.

قَوْله: «عَنْ عَبْدِ اللَّ‍هِ بْنِ عُمَرَ »، نَقُول: (عنهما)؛ لأنَّ الابْنَ وأبَاه كانا صحَابِيَّيْن، ويَنْبَغِي للطَّالب أنْ يفهمَ هذا، أمَّا إِذَا كَانَ الرَّاوِي صحابِيًّا دون أبيه قيل: «رضي الله عنه».

«عمرَ» مضاف إِلَيْه، مجرورٌ بالفتحة؛ لأنَّهُ ممنوعٌ من الصَّرْفِ للعَلَمية والعَدْلِ،

أي العَدْل الصَّرْفي، فأصلُ عُمر: عامر، وعلَيْه، فكلُّ ما كَانَ عَلَى وزن فُعَل من وصفٍ أو من عَلَم؛ فإِنَّه ممنوع من الصَّرْف، إمَّا للعَلمية والعَدل، مثل: زُفَر، وزُحَل، وإما للوصفية والعَدل، مثل: أُخَر.

«أَنَّ رَسُولَ اللَّ‍هِ ﷺ قَالَ: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»، «صَلَاة الجَماعَة» مُبتدَأ، و«أَفْضَل» خبَر المبتدأ، وقَوْله: «مِن صَلَاةِ الفَذِّ» أي المُصلِّي وحده مُنْفَرِدًا بدَلِيل قَوْله: «صَلَاة الجَمَاعَة»؛ لأنَّ الشَّيْء يُعْرَف مَعْنَاه بمعرفة مُقابلِه، أيْ أنَّ الكَلِمَة قد لا تُفْهَمُ مِن تركيبها ولكن مِن ذِكْر ما يقابلها، وهَذِهِ مِن قَوَاعِد التَّفسير، مثل قَوْله تعالى: ﴿فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النِّسَاء:٧١]، فمَعْنَى ﴿ثُبَاتٍ﴾ مُنفَرِدين، وعُرِفَت مِن ذِكْر مقابلها، حيثُ قال: ﴿انفِرُوا جَمِيعًا﴾.

وقَوْله: «بسَبْعٍ وعِشْرِينَ درَجَة»، كَثُر كَلَام العُلَمَاء  في مَعْنَى الدَّرَجة، وعندي أنه لَيسَ فيها إشكالٌ إطلاقًا؛ لأنَّهُ -مثلًا- إِذَا قدَّرْنا صَلَاة الفرد فيها أجر وَاحِد؛ فيَكُون في الجَمَاعَة سبعًا وعشرين درجةً، وإِذَا كَانَتْ درجة الفرد عند الله تعالى في ميزانٍ؛ فهَذِهِ تزيدُ علَيْها سبعًا وعشرين مرَّة، ولَا إِشْكَالَ في ذَلِك، ولا حاجةَ أن نَقُول ما هي الدَّرجة، وهل هي عالية أو نازلة.

وبِنَاءً عَلَى ذَلِك: فلو كَانَ الإِنْسَان إِذَا صلَّى وحده صَلَاةَ خُشوعٍ وحُضورِ قلبٍ، واتِّباع للسُّنة، وإيمان كَامِل، ثُم صلَّى بهَذِهِ الصِّفَة مع الجَمَاعَة؛ صَارَت صَلَاة الجَمَاعَة أفضلَ باعتبار صَلَاة الفرد، ولو صلَّاها مع الجَمَاعَة بدون خُشُوعٍ، ولا طُمَأْنِينَة كَامِلة، فلا تَكُون صَلَاةُ الجَمَاعَة هَذِهِ أفضلَ من صَلَاة الفرد، لكن نَقُول متَى كَانَتْ درجةُ الفرد كذَا؛ فدرجة الجَمَاعَة أفضل منها بسبعٍ وعشرين.

فتَكُونُ الوَاحِدَة، عن سبعٍ وعشرين، وإِذَا كَانَتِ الحسنةُ بعشر أمْثَالها يَكُون ثَوَابُ صَلَاةِ الجَمَاعَة مائتين وسبعين حسنةً، ولو صليتَ وحدكَ لكَانَتْ عشرَ حسناتٍ

فقط، فالرِّبْحُ عَظِيم جدًّا.

ونحن نشاهد أنَّ النَّاس في الدُّنْيَا لو قيل لأحدِهم: إنك إِذَا عملتَ بضاعتك لمسيرةِ شهرٍ رَبِحَتِ العشرةُ عشرين، فإِنَّه يسَافرُ ولو بَعُدَ السَّفَرُ، بينما هذا تربح الوَاحِدَة سبعًا وعشرين، ومع ذَلِك نجد التكاسلَ العَظِيمَ عن صَلَاة الجَماعَةِ.

إضافة إِلَى أنَّ الربحَ الَّذي يَكُون في الدُّنْيَا لَيسَ كالربح الَّذي يَكُون في الآخِرَة، قال النَّبِيُّ ﷺ لـما رواه الْإِمَام أحمد من مسند المُستَورِد بنِ شدادٍ، قال: «لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، سُبْحانَ اللَّ‍هِ! موضع السَّوْط، والسَّوْط حوالي متر، خير من الدُّنْيَا وما فيها.

ولِهَذا قال اللَّ‍هُ تعالى في القُرْآن الكَرِيم: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأَعْلَى:١٦-١٧]، سبع وعشرون درجة ليست كعشرة في المِئَة، أو مِئَة في المِئَة من أرباح الدُّنْيَا، بل ولا مليون في المِئَة من أرباح الدُّنيا؛ لأن أرباحَ الدُّنيا تزولُ، عُرضةً للزَّوال، عُرضةً للفَناءِ، أرباح الآخِرَة باقيةٌ، فصَلَاة الجَماعَةِ أفضلُ من صَلَاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعشرينَ درجةً.

فإِذَا قال قَائِل: لماذا خص سبعًا وعشرين درجة؟

فالجَوَاب: الْعِلْمُ عند الله، تَخْصِيصُ الشَّيء بعدد أمرٌ توقيفيُّ في غالب المسَائل، ولِهَذا لو قال قَائِل: لماذا خصص سبعا وعشرين درجة؟ نَقُول: لماذا جعل الصَّلوَاتِ خمسًا، تستطيع أن تُعلِّل أم لا؟ لا تستطيع، لماذا صَارَت الصَّلوَات سبع عشرة ركعة ولم تكن عشرين ركعة أو ثَلاثِين ركعة؟ لا تستطيع أن تُعلِّل؛ لأن عقولَنا قاصرةٌ، فكونها أفضلَ بسبع وعشرين درجة لا يُمْكِنُ أن نُعَلِّلَ تَخْصِيصَ هذا العدد؛ لأَنَّنا قاصرونَ عن إدراكِه.

مِن فَوائِد هَذا الحدِيثِ:

• الفَائِدَةُ الأُولَى: مَشْرُوعيَّةُ صَلَاة الجَمَاعَة.

وجه ذَلِك: إِثْبات الفَضِيلة لهَا؛ لأنَّ إِثْباتَ الفَضِيلَة يعني الحَثَّ علَيْها، إذْ إِنَّ النَّبيَّ ﷺ لَا يُرِيدُ منا أنْ نعْلَمَ أنها فاضلةٌ فقط، بل يريدُ مِنَّا أنْ نفعلَ ما ذُكِرَ فيه فَضْلٌ.

• الفَائِدَةُ الثَّانِيةُ: أنَّ صَلَاة الفَذِّ صَحِيحَةٌ.

وجه الدَّلالة: أنَّ لدَيْنا مُفَضَّلًا، ومُفَضَّلًا علَيْه، والمُفَضَّلُ علَيْه هنا هي صَلَاةُ الفرد، ولو كَانَتْ غيرَ صَحِيحَةٍ لم يَكُن فيها فضلٌ أصلًا؛ فإِثْبَات الفضلِ لصَلَاة الفرد مع زيادةِ صَلَاة الجَمَاعَة علَيْها يدلُّ عَلَى أنها صَحِيحَةٌ؛ وحِينَئذٍ لا تَصِحُّ المُفاضَلة إذْ إنَّ التَّفضيلَ يَكُون بين شيئَيْن اتَّفقَا في الأَصْل، فإِذَا قُلتَ فلانٌ أقوى مِن فلان، ففي كل منهما قوَّة لكن أَحَدهُما أقوى، وكذَلِك إِذَا قُلْنا صَلَاة الجَمَاعَة أَفْضَل مِن صَلَاة الفذِّ؛ ففي كلٍّ منهما فضل، لكن الجَمَاعَة أفضل.

جوابُ شيخ الإِسْلام ابنِ تَيْمِيةَ عن هَذَا الحَدِيث؟

لم يَخْفَ علَيْه  أنَّ مثل هَذَا الحَدِيث يدلُّ عَلَى صِحَّة صَلَاة الفَذِّ، وهو أعظمُ فهمًا مِن أنْ يقول لَيسَ في صَلَاته فضلٌ، مع أنَّ هَذَا الحَدِيث يدلُّ عَلَى الفضل، فجوابه  جوابٌ غير وَاضِح، لأنَّهُ يقول هذا فِيمَن صلَّى فَذًّا معذورًا؛ فصَلَاتُه مع الجَمَاعَة أفضلُ من صَلَاته فَذًّا، لكن هذا الجَوَاب غيرُ سديد.

وجهه:

أولًا: أنَّ مَن صلَّى فَذًّا معذورًا، وكان مِن عادته أنْ يُصلِّيَ مع الجَمَاعَة؛ كُتِبَ له أجرُ صَلَاة الجَمَاعَة كَامِلًا، لِقَوْلِ النَّبيِّ ﷺ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا».

ثانيًا: قد نَقُول فيمن كَانَ معذورًا إنَّ صَلَاتَه وحْدَه أفْضَل مِن صَلَاته مع الجمَاعة إِذَا كَانَ حُضُور الجَمَاعَة يَشُقُّ علَيْه، أو يُوجِبُ انشغالَ فكره، فقَدْ نَقُول صَلَاة الإِنْسَان إِذَا كَانَ مريضًا وحْدَهُ أفضلُ مِن صَلَاته مع الجَمَاعَة إِذَا كَانَ حُضُورُ الجَمَاعَة يؤدي إِلَى المَشَقَّة والتَّعَب، وعدم حُضُور الْقَلْب؛ فلِهَذا يَكُون جواب شيخ الإِسْلام  عن هَذَا الحَدِيث جوابًا غير صحيح.

فإنْ قال قَائِل: كيْفَ نُجِيب علَى تعْلِيلِه  أنَّ كُلَّ وَاجِبٍ في العِبادَة إِذَا تركه الإِنْسَان عمدًا بِلَا عُذْر لم تَصِحَّ العِبادَة؟

نقول: الوَاجِب وَاجِبانِ:

الأَوَّل: وَاجِبٌ في العِبادَة، إذَا ترَكهُ الإِنْسَان عمدًا بِلَا عُذْر بَطُلَتِ العِبَادة.

الثَّانِي: وَاجِبٌ للعِبادَة، إِذَا تركه الإِنْسَان عمدًا لم تَبْطُلِ العِبادَة، لكنه آثِمٌ لِتَرْكِه الوَاجِبَ.

ومن ذَلِك: الأَذَان، والإِقَامَة، فلَو صلَّى الإِنْسَانُ بِلا أذَانٍ ولا إِقَامَةٍ؛ فصَلاتُه صَحِيحَةٌ حتَّى وإنْ كانوا جَماعَةً، لكنَّهم آثِمُونَ بِتَرْكِ الوَاجِبِ.

• الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الأَعْـمَالُ تتفَاضَل، وتُؤْخَـذُ مِن قَـوْله: «أَفْضَـل»؛ لأنَّهَا اسـم تفضيلٍ.

وتَفَاضُلُ العِبَادات يَكُون بأجْنَاسِها، وأنْوَاعِها، وأفْرَادِها.

تَفَاضُلُ الجِنْس: كالصَّلَاة والزَّكاة -مثلًا-، فتَفْضِيلُهما تفْضِيلُ جِنسٍ عَلى جِنْسٍ، فجنس الصَّلَاة أفْضَلُ مِن جِنْس الزَّكاة، والزَّكاةُ أفضَلُ مِن الصَّومِ، والصَّوم أفْضَلُ مِن الحج، وأَرْكَان الإِسْلام أفضل مِن الوَاجِبَات الَّتي ليست بأَرْكَان، وهَكَذا.

تفاضل النَّوع: كوَاجِب العِبادَة أفضلُ مِن نَفْلها، فالصَّلَاة منها الوَاجِب ومنها النَّفْل، كالظُّهر ورَاتِبَتُها، أو الظُّهر والوِتْر؛ لِقَوْلِه : «إنَّ اللَّ‍هَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ»، لكن يحب الفَرضَ أكثر؛ لِقَوْلِه تعالى في الحَدِيث القدُسِي: «ومَا تقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرضْتُهُ علَيْه»، هذا دَلِيلٌ أثري.

وأمَّا الدَّليل النَّظري: أنَّ اللَّ‍هَ اعْتَنى بِالوَاجِب أشدَّ مِن النَّفل، حيثُ فَرضَه عَلى العِبَاد؛ فدلَّ ذَلِك عَلَى مَحبَّتِه له وعِنايته به.

تَفَاضل الفرد: كالصَّلَاة الَّتي يَخْشَع فِيهَا الإِنْسَانُ ويُقِيمُها عَلى ما جَاءَتْ بِه السُّنة، تَكُونُ أفضلَ مِن صَلَاةٍ يفوت فيها الخُشُوعُ وتطبيقُ السُّنة، وهَذِهِ صَلَاةُ فَرضٍ عَلى فَرض، فَتُصَلِّي الظُّهر بقَلْبٍ خَاشِع حاضِرٍ مُتَأَنٍّ، مُتَّبِعٍ للسُّنة، وتصلي العَصْرَ بقَلْبٍ غافلٍ مع إهمال بَعْض السُّنن، فكِلاهُما صَلَاةٌ، وكِلاهُما فَرضٌ، لكن الْأَفْضَل في هذا المثَال هو الظُّهر.

وكذَلِك تفْضِيلُ العَصْرِ عَلَى بقِيَّة الصَّلوَات، لِقَوْلِه: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّ‍هِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:٢٣٨].

ويَتَرَتَّبُ عَلَى تَفاضُل الأَعْمَال تفَاضُلُ العامِل؛ لأنَّ الَّذي قام بعمَل أفْضَل، فيَكُون في هذا دَلِيلٌ عَلَى تَفاضُل العمَّال، وإِذَا تَفاضَلَ العَمَل والعَامِل؛ لَزِمَ مِن ذَلِك

أنْ يتفاضلَ الْقَلْبُ؛ فيَكُون في هذا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الإِيمَان يزيدُ وينقصُ.

دَلِيل تَفاضُل الإِيمَان الأثَري والنَّظري:

الدَّليل الأَثَرِيُّ: قولُه : ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر:٣١]، وقَوْله تَعالَى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح:٤]، وفي الآيَات دَلِيل -أيضًا- عَلَى أنَّه ينْقُص؛ مِن لَازِم الزِّيادة أنْ يَكُون هُناكَ مَزِيدٌ علَيْه، والمَزِيد علَيْه ناقصٌ عَنِ الزَّائِد، فمتى ثَبتتِ الزِّيادَةُ؛ لَزِم ثُبُوتُ النُّقصَان، ومتَى ثَبت النُّقصَانُ؛ لَزِم ثبوتُ الزِّيادَة؛ لأنَّهُما متقابلان.

والدَّليل النَّظري: لَا يستوِي إِنْسَانٌ يعْمَلُ كأنَّما يشاهدُ اللَّ‍هَ والدَّارَ الآخِرَةَ، وإِنْسَان يعملُ يرجو الثَّوابَ ويخافُ من العقابِ، ولكنه لَيسَ كأنَّهُ يشاهِدُ، ولِهَذا قال النَّبيُّ  «الْإِحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّ‍هَ كَأنَّكَ ترَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّه يرَاكَ»، أيْ إنْ لم تَعْبُدْه علَى هَذِهِ الحال فاعْبُدْه علَى الحال الأُخْرَى وهو أنه يراك؛ ولِهَذا كَانَ الحَدِيث هنا يَدُل عَلَى أنَّ الإِحْسَانَ مرتبتانِ: مرتبةُ طلَب في قَوْلِه: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّ‍هَ كَأنَّكَ ترَاهُ» فتعبده حثيثًا لتَصِلَ إِلَيْه ، ومرتبة رَهب في قَوْلِه: «كَأنَّهُ يرَاكَ» فتَخاف منه، والمرْتَبةُ الأُولَى أعْلَى وأفضلُ.

إذن، في حديث ابن عمرَ دَلِيلٌ عَلَى زيادة الإِيمَان ونُقْصانِهِ عَلى حَسَبِ التَّرتيب الَّذي ذكرنا لكم.

مَسْأَلَة: مذهبُ أهل السُّنة والجمَاعة أنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، خِلافًا للمُرجِئة، والخَوَارِج، والمُعتزِلة.

فالمُرجِئة قَالُوا: لا يَزِيدُ ولا ينْقُصُ، والنَّاس كلُّهم فِي الإِيمَان مرتبةٌ وَاحِدَة، قال ابن القَيِّم  في وصْف مذْهَبِهِمْ: «والنَّاسُ في الإِيمَانِ شَيْءٌ وَاحِدٌ كالمُشْطِ عندَ تَمَاثُلِ الأسْنَانِ».

فالمُشْط أسنانُه متسَاويةٌ، والمُرْجِئَة أو الجَهْمِيَّة يرَوْن النَّاس في الإِيمَان شيئًا وَاحِدًا كالمُشط عندَ تَماثُلِ الأَسْنَانِ، ويَقولُونَ إِيمانُ أفْسَقِ النَّاسِ كَإِيمانِ أتْقَى النَّاسِ، وليْسَ بَيْنَهُما فرقٌ؛ نسْأَلُ اللَّ‍هَ العَافِيةَ.

أمَّا الخَوَارِجُ والمُعْتَزِلَةُ عَلَى العَكْس، فقَالُوا الإِيمَانُ لا يزيدُ ولَا ينقصُ، إمَّا أنْ يُوجَدَ كَامِلًا، وإمَّا أن يُعْدَمَ كَامِلًا، ولِهَذا قال الخَوَارِجُ إنَّ فَاعِل الكَبِيرَةِ كَافِرٌ، وقال المُعْتَزِلَة إنه في منزلةٍ بين منزلتَيْن لا مؤمِنٌ ولا كَافِرٌ؛ فأحْدَثُوا في دين الله ما لَيسَ منه، والله  قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾ [التغابن:٢]، ولم يَقُل: «ومنكم مَنْ هو في منزلةٍ بين المنزلتَيْن»، وقد كَانَ الخَوَارِجُ أشجعَ من المُعْتَزِلَة في الإقدام عَلَى ما يرَوْنَه، فكَفَّروا فَاعِلَ الكَبِيرَة ولو فعلها مرَّةً وَاحِدَة ولم يَتُبْ، وأباحُوا دمَه ومالَه، ويُفسخ نكاحه، ولا يَجوز أن يُزَوَّجَ، وإِذَا مات لا يُصلَّى علَيْه، ولا يُدْعَى له بالرَّحمة؛ فَنَسألُ اللَّ‍هَ الْعَافِيةَ.

هُم أحْدَثُوا هَذِهِ البِدعة في منزلةٍ بين المنزلتَيْن، فكان الخَوَارِجُ أشجعَ مِنهم في الإقدام عَلَى ما يرونه؛ قَالُوا: ما فيه إما مؤمنٌ وإما كَافِرٌ، فإنْ فَعَلَ كَبِيرَةً كأنْ زَنَى مرةً وَاحِدَة ولم يَتُبْ؛ فهو عند الخَوَارِج كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّم، مُبَاحُ المال، مفسوقُ النِّكاح، ولا يَجُوز أنْ يُزوَّجَ، وإِذَا مات لا يُصلَّى علَيْه، ولا يُدعى له بالرَّحمة؛ ولِهَذا استباحوا دماء المُسْلِمينَ لأنَّهُم يَرَوْنَ المُسْلِمينَ كفارًا، فقَالُوا: نجاهد المرتدينَ قبل أنْ نجاهدَ الكَافِرِينَ الَّذِين هم أصلًا في الكفر.

أما المُعْتَزِلَةَ فقَالُوا: في منزلةٍ بين المنزلتَيْن، لا نَقُولُ: إنَّه كَافِرٌ، ولا نَقُولُ: إنه مؤمنٌ؛ لكنهم اتفقوا مع الخَوَارِج عَلَى حكم الآخِرَة، فقَالُوا: إنَّه مُخَلَّدٌ في النَّار.

أما أهلُ السُّنةِ والجَمَاعَة فقَالُوا: لا نَقُول: مؤمنٌ كَامِلُ الإِيمَان، ولا كَافِرٌ كَامِل الكفر.

فافترقوا عَنِ المُعْتَزِلَةِ بكَلِمَةِ (كَامِل)، فقَالُوا: بل نَقُول: معه إيمانٌ وكفرٌ، إيمانٌ ناقصٌ وكفـرٌ ناقصٌ.

كما جـاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ  أَنَّهُ قَاَل: «كُفْـرٌ دُونَ كُفْرٍ».

أو نَقُول: هو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.

وَهَذَا الْقَوْل لا شَكَّ أنَّه هو الَّذي علَيْه الأَدِلَّة الصَّحيحة.

إن سأل سَائلٌ: هل هُناكَ تفاضلٌ بين الصَّحَابَة؟

والجَوَاب: ما ثبت للصَّحابي مِن فَضِيلَةٍ وشاركه غيرُه فيها فالصَّحابي أفضلُ؛ وما ثبت للصَّحابي مِن فَضِيلَةِ الصُّحبة ولكنَّه لمْ يعملْ عَمَلَ مَن بعده؛ فهو أفضلُ مِنه مِن حيثُ الصُّحبة، لكن هذا أفضلُ منه مِن حيثُ العَمَل الَّذي قام به، ولِهَذا كَانَ أيام الصَّبر للعامل فيهنَّ أجرُ خمسين من الصَّحَابَة.

وتَفاضُلُ الأَعْمَالِ يترتبُ علَيْه تَفاضُلُ العمَّالِ، أي أنَّ النَّاس بَعْضهم أفضلُ من بَعْضٍ، وجه ذَلِك أنه إِذَا كَانَتِ الأَعْمَالُ تَتفاضَلُ فإن القائمينَ بالأَعْمَال يتفاضلونَ بحَسَبِ تفاضُلِ هَذِهِ الأَعْمَالِ، وَهَذَا موجود في القُرْآن: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّ‍هُ الْحُسْنَى﴾ [الحديد:١٠]، ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّ‍هِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ [النِّسَاء:٩٥].

إذن، فالْعَمَلُ يتفاضلُ، والعمالُ يتفاضلونَ.

هل يمكـن أن نأخذَ من هذا تفاضُلَ الإِيـمَان؟ وأنَّ الإِيـمَان يزيـدُ وينقصُ أم لا؟

والجَوَاب: يُؤْخَذُ من هَذَا الحَدِيثِ تفاضُلُ الإِيمَانِ، وأنه يزيدُ وينقصُ، ووجهُ ذَلِك أنَّ الأَعْمَالَ من الإِيمَانِ، فإِذَا تفاضَلَتِ الأَعْمَالُ لزِمَ أن يتفاضلَ الإِيمَانُ؛ لأنَّ الأَعْمَالَ منه، فإِذَا تفاضلَتْ تفاضلَ الإِيمَانُ.

إذن، نأخذُ من هذا دَلِيلًا عَلَى أن ما ذهب إِلَيْه أهلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ من أنَّ الإِيمَان يزيدُ وينقصُ، وَهَذَا أمر مُشاهَدٌ مجرَّبٌ.

وهل يقينُ الْقَلْبِ يتفاضلُ أم لا؟

الجَوَاب: يتفاضلُ، والدَّلِيل: قول الله : ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى﴾ [البقرة:٢٦٠]، أنا مؤمن، ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة:٢٦٠].

ولما بشَّرَ الله زكريا بالولدِ آمَنَ بذَلِك، ولكن قال: ﴿رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً﴾ [آل عمران:٤١]، ليطمئنَّ قلبُه، فهو لَيسَ مكذِّبًا، أبدًا، ولكن ليطمئنَّ قلبُه، فطمأنينةُ الْقَلْبِ أمرٌ زائدٌ عَلَى مُجرَّد الإِيمَانِ، وَهَذَا دَلِيلٌ من القُرْآن عَلَى أن ما في الْقَلْبِ من الإِيمَان يتفاضلُ؛ يزيدُ وينقصُ، ويشهدُ الوَاقِعُ بذَلِك، فلو أخبركَ رجلٌ صدوقٌ بخَبَر صار في قلبك شَيْءٌ من الإِيمَان، فإِذَا جاء رجلٌ آخرُ صدوقٌ وأخبرك بنفس الخَبَر، يزدادُ إيمانُكَ، ولو جاءك ثالثٌ ازدادَ أكثرَ واطمأنَنْتَ إِلَيْه.

إذن، نفس الإِيمَان الَّذي في الْقَلْب لا شك أنه يزداد، فلو جاءكم رجلٌ واعظٌ بموعظةٍ مؤثِّرةٍ تَجِدُونَ في قُلُوبكم من الإِيمَان ما لا تَجِدُونه إِذَا خرجتم إِلَى الأسواقِ.

إذن، الإِيمَان الَّذي في الْقَلْب يزيدُ وينقصُ، والإِيمَانُ الَّذي في الجَوَارِحِ -وهو الأَعْمَال- كذَلِك يزيدُ وينقصُ.

وأَدِلَّة زيادةِ الإِيمَان ونقصانِه موجودةٌ في القُرْآن، يقول الله : ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [مُحمَّد:١٧]، ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر:٣١]، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [التَّوْبَة:١٢٤].

وهل في السُّنةِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الإِيمَان ينقص مع بقاء أصله؟

الجَوَاب: قال النَّبِيُّ ﷺ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ -يُخاطِبُ النِّسَاء- أَذْهَبَ بِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ».

فقال: «نَاقِصَات عَقْلٍ وَدِينٍ»، إذن، الدِّين ينقصُ، وَهَذَا نصٌّ صريحٌ.

وفي القُرْآن ما يدُلّ عَلَى نقصِ الإِيمَانِ؛ لأنَّهُ إِذَا كَانَ يزدادُ، فالمقابلُ النُّقصانُ.

إذن نأخذ من هذا قَاعِدَة وهي: كلُّ نصٍّ يدلُّ عَلَى زيادةِ الإِيمَان؛ فإِنَّه يدُلّ عَلَى نقصِ الإِيمَانِ.

الإِيمَانُ يزيدُ وينقصُ، وَهَذَا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، أما الخوارجُ والمعتزِلةُ والمُرْجِئَة؛ فإِنَّهم لا يُقِرُّونَ بزيادةِ الإِيمَان ونَقْصِه، لكنهما طرفَا نقيضٍ، فالمُرْجِئَة يَقولُون: الإِيمَانُ لا يزيدُ ولا ينقصُ، ولكن لا تَضُرُّه المَعْصِيَةُ أبدًا، فالفاسقُ المجرمُ الظَّالمُ الآثمُ إيمانُه كَامِلٌ كإيمانِ الرَّجلِ الصَّالحِ التَّقِيِّ -نسأل الله العافية- والخوارجُ والمعتزِلةُ، يَقولُون أيضًا: الإِيمَانُ لا يزيدُ ولا ينقصُ، ما يوجد إلا إيمانٌ أو كفرٌ، يقول هذا الخوارج.

أو إيمانٌ وانتفاءُ إيمانٍ، ويقول هذا المعتزِلة.

ولنضرب لِهَذا مثلًا: رجلٌ زنى، والزِّنا فاحشةٌ كما قال اللَّ‍هُ  عند الخوارجِ هو كَافِرٌ، وعند المعتزِلة لا مؤمنٌ ولا كَافِرٌ في منزلةٍ بين المنزلتَيْنِ، وعند المُرْجِئَة مؤمنٌ كَامِلُ الإِيمَان.

أما عند أهل السُّنَّةِ فمؤمنٌ ناقصُ الإِيمَان، أو مؤمنٌ بإيمانه، وفاسقٌ بكبيرتِه، فباعتبار الْعَمَلِ يَكُونُ فاسقًا، وباعتبار ما في قلبه من إيمانٍ يَكُونُ مؤمنًا.

مسألة: ظَاهِرُ حديث ابن عمر  عَلَى جَوَاز صَلَاة الفَذِّ؛ لأنَّهُ جاء في لفظ أفضل، وَهَذَا الاسم عَلَى وزن أفعل، وتدل عَلَى اشتراط الفاضل والمفضول، فما قولكم في ذَلِك؟ وهل في هَذِهِ المَسْأَلَة حجة لمن يتهاون عَلَى الصَّلَاة في جَماعَة وكيف نردُّ علَيْه إن كَانَ اسْتِدلَاله في غير محله؟

الجَوَاب: نعم، هَذَا الحَدِيث لا شك أنه يدلُّ عَلَى صِحَّة صَلَاةِ الفَذِّ، يعني الَّذي يتخلفُ عَنِ الجَمَاعَة، وذَلِك لِقَوْلِه ﷺ: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ».

ومن المَعْلُوم بمُقْتَضَى اللُّغَة الْعَرَبِيَّة أنَّ المفضَّلَ والمفضَّلَ علَيْهِ يشتركانِ في أصل الوصفِ، فإِذَا قلتَ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أفضلُ من صَلَاة الفَذِّ، دَلَّ ذَلِك عَلَى أن في صَلَاة الفَذِّ فضلًا، وهو كذَلِك، ولا يُمْكِن أن يَكُون فيها فضل إلا إِذَا كَانَتْ صَحِيحَة.

ففي هَذَا الحَدِيث دَلِيلٌ عَلَى أن مَنْ صلَّى منفرِدًا فصَلَاتُه صَحِيحَةٌ، فلا نأمره بالإِعادَة، فيَكُونُ فيه رَدٌّ لقولِ حَبْرٍ من أحبار الأمة وهو شيخ الإِسْلام ابن تَيميةَ، رحمة الله علَيْه، فإِنَّه يرى أن صَلَاةَ الجَمَاعَةِ شرطٌ لصِحَّةِ الصَّلَاة، وأن من صلَّى فَذًّا لغير عذر فصَلَاته بَاطِلةٌ غير مقبولة، وغير مُجْزِئَةٍ، وَهَذَا رواية عن إِمَام أهل السُّنة الْإِمَام أحمدَ بن حنبلٍ، رَحِمَه اللَّ‍هُ، ولكن الحقَّ أحَقُّ أن يُتْبَعَ، فإن هَذَا الحَدِيثَ يدلُّ عَلَى أن مَنْ صلَّى فَذًّا فصَلَاتُه صَحِيحَةٌ، وأنَّ الجَمَاعَةَ ليستْ شرطًا لصِحَّةِ الصَّلَاة بل هي وَاجِبَةٌ، كما سيَأْتِي إن شاء الله في حديث أبي هريرة.

فإن قال قَائِلٌ: ذكرنا قَاعِدَةً وهي: أنَّ من رجَّحَ قولًا عَلَى قولٍ لزمَهُ شيئان: الأَوَّل: دَلِيلُ الترجيحِ، والثَّانِي: الجَوَابُ عن دَلِيلِ المُعارِضِ، فما جوابُ شيخ الإِسْلام ابن تَيْمِيةََ عن هَذَا الحَدِيث؟

أجاب عنه  بأن هذا في حقِّ المعذورِ، أي أن صَلَاةَ الجَمَاعَةِ أفضلُ من صَلَاة الفَذِّ المعذورِ، بسبع وعشرين درجةً، فحملَهُ  عَلَى المُصَلِّي فَذًّا بعذرٍ، ولكن قد نَقُول لشيخ الإِسْلام ابن تَيْمِيةََ إن المعذورَ إِذَا تخلَّفَ عَنِ الجَمَاعَة وكان من عادته أن يُصلِّيَها فإِنَّه يُكْتَبُ له الأجرُ كَامِلًا، كما ثبت في الصَّحِيح أنه «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»، وحِينَئذٍ لا يظهرُ لي جوابٌ عن هذا الجَوَابِ.

أما قول السَّائل: وهل فيه دَلِيلٌ عَلَى تهاون من يتهاون بصَلَاة الجَماعَةِ؟ فنقول: لَيسَ فيه دَلِيلٌ عَلَى ذَلِك؛ لأن هُناكَ أحاديثَ بل وهُنَاك من القُرْآنِ ما يدلُّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الجَمَاعَة.

يقول: اختلفتِ الرِّوايَاتُ في فضل صَلَاةِ الجَمَاعَة، جاءت بسبع وعشرين درجةً، وخمس وعشرين درجةً، كيف يَكُون الجمعُ بينهما؟

الجمعُ بينهما سهلٌ جدًا، إِذَا قلتُ لك: إِذَا أحضرتَ لي الشَّيءَ الفلانيَ أعطيتك خمسًا وعشرين درهمًا، ثم قلت: إِذَا أحضرتَ الشَّيءَ الفلانيَ نفسَه أعطيتكَ سبعًا وعشرين درهمًا، فلَيسَ فيه تناقضٌ، فنأخذُ بالزَّائِد.

إذن يَكُونُ النَّبِيُّ  بيَّنَ أولًا أنَّ التفاضلَ بخمسٍ وعشرين درجةً ثم بيَّن ثانيًا أنَّ التفاضلَ بسبعٍ وعشرين، يعني زادَ النَّاسَ خيرًا، ولَيسَ هُناكَ تناقضٌ.

مسألة: قَوْله ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».

ما المُرَاد بِقَوْلِه ﷺ:

«لَا صَلَاةَ»؟ هل المُرَاد لا صَلَاةَ كَامِلة، أم لا صَلَاةَ صَحِيحَة؟

قبل الإِجابَة عَلَى هذا السؤال أريدُ أن أذكرَ لكم قَاعِدَةً: إِذَا وردَ النفيُ عَلَى شَيْءٍ فالأَصْل أنه انتفاءٌ حسيٌّ، فإن لم يمكنْ فهو انتفاءٌ شرعيٌّ، فإن لم يمكنْ فهو انتفاءُ كمالٍ، ويُحْمَلُ النفي عَلَى نفي الوجود أصلًا، فإن لم يمكن فعلى نفي الصِحَّةِ، ونفي الصِحَّة في الحقيقة نفيٌ للشَيْءِ شرعًا، فإن لم يمكن فعلى نفي الكمالِ.

إِذَا قلتُ: لا بقاءَ إلا للَّ‍هِ، فَهَذَا نفي وُجُود، لا يوجد بقاء كَامِل لغير الله ، لا خالق إلا الله، قال اللَّ‍هُ تعالى: ﴿اللَّ‍هُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد:١٦]، وقال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّ‍هِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر:٣].

إِذَا قلتُ: لا وُضُوءَ لمن لم يَذكُرِ اسمَ الله علَيْه، فقام إِنْسَان فتوَضَّأ ولم يُسَمِّ، فوجد الوُضُوء الآن، إذن لا يُمْكِن أن نحملَ النفيَ الآن عَلَى نفي الوجود؛ لأنَّهُ قد يوجد الوُضُوءُ بدون تسميةٍ، فَهَذَا يُحْمَلَ عَلَى نفي الصِحَّة، أي لا يصح وُضُوء بدون تسمية.

وفي هَذِهِ المَسْأَلَة، قال الْإِمَام أحمدُ: بابُ التَّسميةِ عَلَى الوُضُوء لا يثبتُ فيه شَيْءٌ، وأكثر الواصفين لوُضُوءِ الرَّسُول  لم يذكروا التَّسْمِيَةَ، ولِهَذا كَانَ الْقَوْلُ الصَّحِيح أنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الوُضُوء سُنَّةٌ وليستْ بوَاجِبَةٍ، فلو الإِنْسَانَ تَعَمَّدَ الوُضُوءَ بلا تسميةٍ فوُضُوءُه صحيحٌ.

لا صَلَاةَ لمن لم يقرأْ بفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لَيسَ نفيًا للوجود، فرُبَّما يُصلِّي الإِنْسَانُ بلا فَاتِحَة، وإِنَّما هذا نفيٌ للصِحَّةٍ.

فلو قال قَائِلٌ: بل هو نفي للكمالِ، نَقُول: هذا خلافُ الأَصْل؛ لأنَّ الأَصْلَ أولًا أن نبدأ بنفي الوجود، فإن لم يمكنْ بأن كَانَ الشَّيء موجودًا انْتَقَلْنا إِلَى نفي الصِحَّة، فإن لم يمكنْ بأن كَانَ الشَّيء صحيحًا انْتَقَلْنا إِلَى نفي الكمالِ.

إذن لا صَلَاة لمنْ لم يقرأْ بفَاتِحَة الْكِتَاب، هذا نفي للصِحَّة، ويدلُّ لذَلِك قَوْله ﷺ في حديث أبي هريرة: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ».

يعني فَاسِدة.

وقَوْله ﷺ: «وَاللَّ‍هِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّ‍هِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّ‍هِ لَا يُؤْمِنُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّ‍هِ؟ قال: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»، هذا النَّفي للكمالِ.

«لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ»، نفيٌ للكمال ولَيسَ للصِحَّة، إذ يبدأُ الإِنْسَانُ يُصلِّي والطعام بين يديْه وتصحُّ صَلَاته، والمَعْنَى: لا صَلَاةَ كَامِلةً؛ لأنَّ الإِنْسَان إِذَا دخل إِلَى الصَّلَاة وقلبُه مشغولٌ بالطعام سيَكُون عنده وسَاوسُ، وانشغالٌ.

لا صَلَاةَ لمَنْ لم يقرأْ بفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: (مَنْ): اسمٌ مَوْصُولٌ، والاسمُ المَوْصُولُ للعُمُومِ، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر:٣٣]، قال هم المُتَّقُون، ولم يَقُلْ هو المتَّقِي، إذن فالَّذِي دلَّ عَلَى جَماعَة، فالاسم المَوْصُول يدُلّ عَلَى العُمُوم.

«لمنْ لمْ يقرأْ»: عامٌّ، يَشْمَلُ الْإِمَامَ والمَأْمُومَ والمُنْفَرِدَ، إِذَا كَانَتِ الصَّلَاة سِريةٌ فوَاضِح أنَّ المَأْمُومَ سيقرأ، لكن إِذَا كَانَتْ جَهْريَّةً والْإِمَام يقرأُ فهل يقرأُ المَأْمُومُ الفَاتِحَة؟ نعمْ، يقرؤُها والْإِمَام يَقْرَأُ، ولكن لا يَقْرأُ غيرها، فلو دخلتَ مع الْإِمَام وهو يقرأُ ما بعد الفَاتِحَةِ، فهَل تستفتحُ أو تقرأُ الفَاتِحَة مباشرة؟ الجَوَاب: الثَّانِي، لا تستفتحْ إِذَا دخلتَ والْإِمَامُ يَقرأُ ما بَعْد الفَاتِحَة، لأنَّ النَّبِيَّ ﷺ سمع أَصْحَابه يقرؤونَ خَلْفَه فقال: «لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا».

----------------------------

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (٦١٣٧).

أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة رقم (٦١٩)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، رقم (٦٥٠).

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، رقم (٢٧٣٥).

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمُسَافِر مثل ما كان يعمل في الإقامة، رقم (٢٨٣٤).

أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب لله مائة اسم غير واحد، رقم (٦٠٤٧)، ومسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، رقم (٢٦٧٧).

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (٦١٣٧).

أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، رقم (٤٤٩٩)، ومسلم: كتاب الإِيمَان، باب بيان الإِيمَان والإِسْلام والإحسان ووجوب الإِيمَان بإِثْبات قدر الله، رقم (٨).

القول المفيد على كتاب التوحيد (١ / ٤١٥).

أخرجه الترمذي: كتاب الإِيمَان، باب ما جاء: سباب المؤمن فسوق، رقم (٢٦٣٥).

أخرجه البخاري: كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (٢٩٨).

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمُسَافِر مثل ما كان يعمل في الإقامة، رقم (٢٨٣٤).

أخرجه البخاري: كتاب صفة الصَّلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، رقم (٧٢٣)، ومسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (٣٩٤).

أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (٣٩٥).

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، رقم (٥٦٧٠).

أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب كراهة الصَّلاة بحضرة الطعام، رقم (٥٦٠).

أخرجه أحمد (٥ / ٣٢١ رقم ٢٢٧٩٧)..

المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها /حديث رقم:62

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)