■ الحديث: عن عبد اللَّه بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «أَعْتَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ وَرَاسُهُ يَقْطُرُ مَاءً ــ يَقُولُ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ــ أَوْ عَلَى النَّاسِ ــ لأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةِ» .
■ حكم الحديث: متفق عليه
■ شرح الحديث: 〈فتح السلام شرح عمدة الأحكام〉
________________________________________
قوله: (أعتم) (٢) أي: دخل في وقت العتمة، ويطلق أعتم بمعنى أخّر , لكنّ الأوّل هنا أظهر , وللبخاري عن أنس قال: أخّر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل.
واستدل بذلك على فضل تأخير صلاة العشاء، ولا يعارض ذلك فضيلة أوّل الوقت لِمَا في الانتظار من الفضل.
لكن قال ابن بطّالٍ: ولا يصلح ذلك الآن للأئمّة , لأنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتّخفيف , وقال " إنّ فيهم الضّعيف وذا الحاجة " فترك التّطويل عليهم في الانتظار أولى.
قلت: وقد روى أحمد وأبو داود والنّسائيّ وابن خزيمة وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدريّ: صلَّينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العتمة، فلم يخرج حتّى مضى نحوٌ من شطر الليل , فقال: إنّ النّاس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنّكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم
الصّلاة، ولولا ضعف الضّعيف وسقم السّقيم وحاجة ذي الحاجة لأخّرت هذه الصّلاة إلى شطر الليل.
وللتّرمذيّ وصحَّحه من حديث أبي هريرة: لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم أن يؤخّروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه.
فعلى هذا , من وجد به قوّةً على تأخيرها , ولَم يغلبه النّوم , ولَم يشقّ على أحدٍ من المأمومين فالتّأخير في حقّه أفضل.
وقد قرّر النّوويّ ذلك في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشّافعيّة وغيرهم، والله أعلم.
ونقل ابن المنذر عن الليث وإسحاق, أنّ المستحبّ تأخير العشاء إلى قبل الثّلث.
وقال الطّحاويّ: يستحبّ إلى الثّلث، وبه قال مالكٌ وأحمد وأكثر الصّحابة والتّابعين، وهو قول الشّافعيّ في الجديد.
وقال في القديم: التّعجيل أفضل، وكذا قال في الإملاء , وصحَّحه النّوويّ وجماعةٌ. وقالوا: إنّه ممّا يفتى به على القديم.
وتعقّب: بأنّه ذكره في الإملاء وهو من كتبه الجديدة، والمختار من حيث الدّليل أفضليّة التّأخير، ومن حيث النّظر التّفصيل، والله أعلم
قوله: (الصلاة) وهي بالنّصب بفعلٍ مضمرٍ تقديره مثلاً صلِّ الصّلاة، وساغ هذا الحذف لدلالة السّياق عليه.
قوله: (رقد النساء والصبيان) أي: الحاضرون في المسجد، وإنّما خصّهم بذلك لأنّهم مظنّة قلة الصّبر عن النّوم، ومحلّ الشّفقة والرّحمة
، بخلاف الرّجال. وللبخاري " حتى رقد الناس واستيقظوا , ورقدوا واستيقظوا ". وللبخاري نحوه عن ابن عمر , وهو محمول على أنّ الذي رقد بعضهم لا كلّهم، ونسب الرّقاد إلى الجميع مجازاً.
واستدل به من ذهب إلى أنّ النّوم لا ينقض الوضوء.
ولا دلالة فيه لاحتمال أن يكون الرّاقد منهم كان قاعداً متمكّناً، أو لاحتمال أن يكون مضطجعاً لكنّه توضّأ وإن لَم ينقل، اكتفاءً بما عرف من أنّهم لا يصلّون على غير وضوءٍ.
قال المُهلَّب (١): وقد أجمعوا على أنَّ النوم القليل لا ينقض الوضوء، وخالف الْمُزني فقال: ينقض قليله وكثيره. فخرق الإجماع.
كذا قال المُهلَّب، وتبعه ابن بطال وابن التين وغيرهما.
وقد تحاملوا على المزني في هذه الدعوى، فقد نقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة والتابعين المصير إلى أنَّ النوم حَدَثٌ ينقض قليله وكثيره، وهو قول أبي عبيد وإسحاق بن راهويه.
قال ابن المنذر: وبه أقول لعموم حديث صفوان بن عسال. يعني الذي صحَّحه ابن خزيمة وغيره، ففيه " إلاَّ من غائط أو بول أو نوم " (٢) فيسوي بينهما في الحكم، والمراد بقليله وكثيره طول زمانه
وقصره لا مباديه.
والذين ذهبوا إلى أنَّ النوم مظنة الحدث. اختلفوا على أقوال:
التفرقة بين قليله وكثيره. وهو قول الزهري ومالك.
وبين المضطجع وغيره. وهو قول الثوري.
وبين المضطجع والمستند وغيرهما. وهو قول أصحاب الرأي.
وبينهما والساجد بشرط قصده النوم وبين غيرهم. وهو قول أبي يوسف.
وقيل: لا ينقض نوم غير القاعد مطلقاً , وهو قول الشافعي في القديم. وعنه التفصيل بين خارج الصلاة فينقض أو داخلها فلا.
وفصَّل في الجديد بين القاعد المتمكن. فلا ينقض وبين غيره فينقض.
وفي المهذب: وإن وجد منه النوم وهو قاعد ومحل الحدث منه متمكنٌ بالأرض. فالمنصوص أنه لا ينقض وضوءه.
وقال في البويطي: ينتقض، وهو اختيار المزني. انتهى.
وتعقُّب: بأن لفظ البويطي ليس صريحاً في ذلك. فإنه قال: ومن نام جالساً أو قائماً فرأى رؤيا وجب عليه الوضوء.
قال النووي: هذا قابل للتأويل. انتهى
وقد صحَّ عن أبي موسى الأشعري وابن عمر وسعيد بن المسيب ,
أنَّ النوم لا ينقض مطلقاً. وفي صحيح مسلم وأبي داود: وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - , فينامون ثم يصلون ولا يتوضئون. فحُمل على أنَّ ذلك كان وهم قعود. لكن في مسند البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث " فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة ". (١)
قوله: (لأمرتهم بهذه الصّلاة هذه السّاعة) أخرج مسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في بيان أوّل الأوقات وآخرها. وفيه " فإذا صلَّيتم العشاء , فإنّه وقّت إلى نصف الليل ".
قال النّوويّ: معناه وقّت لأدائها اختياراً، وأمّا وقت الجواز فيمتدّ إلى طلوع الفجر، لحديث أبي قتادة عند مسلم " إنّما التّفريط على من لَم يصلِّ الصّلاة حتّى يجيء وقت الصّلاة الأخرى ".
وقال الإصطخريّ: إذا ذهب نصف الليل صارت قضاءً.
قال: ودليل الجمهور حديث أبي قتادة المذكور.
قلت: وعموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصّبح، وعلى قول الشّافعيّ الجديد في المغرب , فللإصطخريّ أن يقول إنّه مخصوص بالحديث المذكور وغيره من الأحاديث في العشاء. والله أعلم.
وأحاديث التّأخير والتّوقيت لَمّا جاءت مرّةً مقيّدةً بالثّلث وأخرى بالنّصف كان النّصف غاية التّأخير، ولَم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثاً صريحاً يثبت.
_____
(١) أخرجه البخاري (٥٤٥ , ٦٨١٢) ومسلم (٦٤٢) من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس به.
(٢) انظر حديث أبي برزة - رضي الله عنه - المتقدّم رقم (٥٣)
(١) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (١/ ١٢).
(٢) وتمامه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنَّ , إلاَّ من جنابة , ولكن من غائط وبول ونوم. وأخرجه الترمذي (٩٦) والنسائي (١٢٦) وابن ماجة (٤٧٨) وأحمد (١٨٠٩١) وابن خزيمة (١٧) وغيرهم.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
(١) رواية مسلم (٣٧٦) أخرجها من طريق خالد بن الحارث عن شعبة عن قتادة عن أنس. زاد أبو داود (٢٠٠) " في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قال الشارح في " التلخيص " (١/ ٢٠٩): ولفظ الترمذي من طريق شعبة: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون , قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس.
قال البيهقي: وعلى هذا حمله عبد الرحمن بن مهدي والشافعي.
وقال ابن القطان: هذا الحديث سياقه في مسلم يحتمل أن ينزل على نوم الجالس , وعلى ذلك نزله أكثر الناس , لكن فيه زيادة تمنع من ذلك رواها يحيى القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة. رواها قاسم بن أصبغ عن محمد بن عبد السلام الخشني عن بندار محمد بن بشار عنه.
وقال ابن دقيق العيد: يحمل هذا على النوم الخفيف , لكن يعارضه رواية الترمذي التي فيها ذكر الغطيط , قال: وروى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن يحيى القطان بسنده , وليس فيه: يضعون جنوبهم , وكذا أخرجه الترمذي عن بندار بدونها , وكذا أخرجه البيهقي من طريق تمام عن بندار , ورواه البزار والخلال من طريق عبد الأعلى عن شعبة عن قتادة. وفيه " فيضعون جنوبهم ".
وقال أحمد بن حنبل: لم يقل شعبة قط كانوا يضطجعون. قال وقال هشام: كانوا ينعسون.
وقال الخلال: قلت لأحمد حديث شعبة: كانوا يضعون جنوبهم؟ فتبسم , وقال: هذا بمرة يضعون جنوبهم. انتهى.
قلت: وقد وقع لابن حجر وهمٌ هنا أثناء تلخيصه , أو أنَّ نسخة التلخيص حصل فيها سقط. فالسياق الصحيح هو ما في أصل الكتاب. البدر المنير (٢/ ٥٠٨) لابن الملقن حيث قال: ورواه الترمذي من حديث يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يقومون ويصلون ولا يتوضئون. ثم قال: حديث حسن. ورواه البيهقي من حديث ابن المبارك ثنا معمر عن قتادة عن أنس , قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون. قال ابن المبارك: هذا .. إلخ.
وعليه فنقل ابن حجر كلام ابن دقيق العيد بقوله: لكن يعارضه رواية الترمذي التي فيها ذكر الغطيط. مما يؤكِّد وهم الحافظ رحمه الله. والله أعلم
المصدر :شرح عمدة الاحكام - ابن باز / كتاب الصلاة / باب المواقيت /حديث رقم:56